دخلت المواجهة بين السلطة والناس في ربط نزاع تحت عنوان: من يتعب أولاً؟ فهل تتعب السلطة فتتنازل، أم يتعب الشعب فينسحب من الشوارع لتستعيد الحياة طبيعتها، وكأنّ شيئاً لم يكن؟
 

رهان السلطة كان منذ اللحظة الأولى على تعب الناس وترهيبهم للخروج من الشارع بسبب رفضها التجاوب مع مطالبهم، وفي ظل اعتقاد لديها أنّ عامل الوقت يعمل لمصلحتها، وقد سَعت إلى ضرب الثورة عن طريق تجزئتها وتقسيمها إلى مربّعات طائفية وفصل بعضها عن بعض. فالثورة الشيعية في النبطية وغيرها يتكفّل «حزب الله» باحتوائها وتطويقها، والثورة السنية في طرابلس لا تؤثر في مجرى أحداث البلد ولا تشكِّل عامل ضغط على رئيس الحكومة، والثورة المدنية في وسط بيروت تشكل تنفيسة لا بأس باستمرارها ما دامت محصورة ضمن بقعة جغرافية معيّنة، والثورة المسيحية في جبل لبنان الشمالي تشكّل مؤامرة على العهد يجب التخلُّص منها، وأسهل الطرق لذلك استحضار الخلاف القوّاتي-العوني، بتصوير أنّ «القوات اللبنانية» تستهدف العهد. ولكن سرعان ما سقطت كل محاولات حَرف الأنظار عن الثورة بقطع أوصالها وتطييفها، كون الدينامية الشعبية الجارفة أثبتت أنها أقوى من أدبيّات عَفّ عليها الزمن وأساليب مَمجوجة ومكشوفة.

وبعد أن وجدت السلطة أنّ مخاطبة الناس لم تخرجهم من الشوارع، فلا الرئيس سعد الحريري نجح في إقناعهم بالورقة الإصلاحية، ولا الرئيس ميشال عون تمكّن من تهدئة روعهم وغضبهم، ولا السيّد حسن نصرالله أعادهم إلى منازلهم بمجرد أن رفع إصبعه واعداً ومتوعّداً. وبالتالي، بعد كل ذلك ترى السلطة نفسها أمام محاولة أخيرة لفتح الطرقات بالقوة من أجل إعادة الحياة إلى طبيعتها، لأنّ إقفال المصارف والجامعات والمدارس وبعض القطاعات والمؤسسات يشكّل عامل ضغط كبير عليها يضطرّها، في حال استمراره، إلى التنازل سياسياً. ولكن، ماذا لو نجحت أو لم تنجح في فتح الطرق بالقوة؟

من الثابت أنّ البلاد لن تعود إلى ما قبل 17 تشرينن بمعزل عن قدرة السلطة على فتح الطرق أو عدم قدرتها. وبالتالي، إنّ نجاحها في فتح الطرق لا يعني استمرارها وكأنّ شيئاً لم يكن، لأن لا ثقة شعبية بكل خطواتها وإجراءاتها، ما سيضطرّها حُكماً إلى تنازلات وتغييرات، ولكن مع فارق أنها تتحكّم بسقف هذه التنازلات، إذ إنّ كل خشيتها أنه في حال استقالت الحكومة تحت الضغط ألّا يكتفي الناس بهذه الاستقالة، وأن يطالبوا بمزيد من التنازلات. بينما إذا استمر قطع الطرق فإنها ستجد نفسها أمام تنازلات مؤلمة، بالنسبة إليها طبعاً، وفي وقت ليس ببعيد إطلاقاً.

وبدلاً من التعامل بمرونة مع التطور الثوري غير المسبوق، بمعنى إحداث صدمة إيجابية بتشكيل حكومة من اختصاصيين، وساعتذاك محاولة فتح الطرق بالقوة بالتزامن مع تشكيل حكومة من هذا النوع تكون بمثابة هدية مزدوجة للثائرين في الشوارع: إستقالة الحكومة وتشكيل أخرى تندرج ضمن مطالبهم، ذهبَت السلطة إلى مزيد من التَشدّد، واضعة خطاً أحمر حول الوزير جبران باسيل باعتباره من الثوابت باستثنائه من أيّ تعديل وزاري وتثبيته في أيّ حكومة جديدة، بحجّة أنّ إخراجه من الحكومة او عدم توزيره يشكّل مَقتلاً سياسياً له في ظل الحملة الشعبية المركّزة عليه، فيما كان على باسيل أن يتعامل بحكمة ومرونة، لا بتَحدٍ، مع الوضع المُستجِد، وأن يكون خروجه من الحكومة كخروج غيره ضمن حكومة لا سياسيين فيها، لاسيما أنّ استمراره في السلطة يشكّل مقتلاً له، لأنّ غضب الناس سيبقى موجّهاً ضده، فيما خروجه يحوِّل الأنظار في اتجاهات أخرى.


وإذا نجحت السلطة في تأمين رواتب الموظفين لهذا الشهر، فقد لا تنجح بذلك في الشهر المقبل، الأمر الذي يعني دخول البلاد في مرحلة شديدة الخطورة من الغضب الشعبي قد تقود فعلاً إلى الفوضى. وبالتالي، أمام الـimpasse الراهن بين سلطة وشعب يرفضان التراجع، لا يمكن للسلطة أن تواصل المكابرة ودفن رأسها في الرمال، لأنّ التنازل الذي ما زال مقبولاً اليوم قد يصبح مرفوضاً غداً، وبالتالي عليها الإقدام عليه قبل فوات الأوان.

والإقدام لا يعني بَلف الناس والضحك عليها بتشكيل حكومة من الطبيعة نفسها في جوهرها للحكومات القائمة، إنما يعني الذهاب إلى تغيير فعلي وحقيقي ونوعي من أجل استيعاب رَدّ فِعل الناس. وما يجب أن تدركه السلطة، وتحديداً «حزب الله»، انّ المواجهة التقليدية والقديمة مع الناس على طريقة 7 أيار وشارع مقابل شارع ما عادت تجدي نفعاً مع هذا الشارع، وبالتالي لا خيار أمامها سوى إعلان رزمة خطوات تبدأ بحكومة جديدة من اختصاصيين.

وكل المؤشرات تدلّ الى أنّ من سيتعب أولاً هو السلطة لا الشعب، الذي لا يوجد أمامه ما يخسره في ظل أوضاع مالية واقتصادية كارثية وتتجه نحو الأسوأ في حال انتهت الثورة أو لم تنته، فيما هو يواجه سلطة هَرمة ومفككة ومقطّعة الأوصال وضعيفة مالياً واقتصادياً وسياسياً وفي أصعب وأتعَس وضعية لها منذ عام 1990. والزمن الحالي لا يشبه بشيء زمن تسعينات القرن الماضي ولا حتى حقبة ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان، ويكفي أن يحافظ الشعب على وحدته وصموده لتسقط السلطة على رؤوس من فيها، في حال لم تُسارع إلى وضع خريطة طريق للانتقال بلبنان إلى مرحلة جديدة.

وما يجب أن تدركه السلطة أيضاً أنّ دورها في المرحلة الحالية ليس التمسّك بمواقعها، لأنها لن تستطيع الحفاظ عليها طويلاً، إنما أن تتولى إدارة الوضع لتحقيق انتقال سَلس ومَرن نحو المرحلة المقبلة، وإلّا على لبنان السلام.