دخول حزب الله بشخص أمينه العام على خط المشاورات أدى إلى تغيير جذري في الأولويات بعدما رفض كلياً الشق السياسي الذي يطالب به المحتجون.
 
يواجه لبنان حاليا انتفاضة غير مسبوقة في تاريخه الحديث، هدفها الأساسي إسقاط الطبقة السياسية الحاكمة الحالية، وتقودها على غير العادة الطبقات المتوسطة والفقيرة، ويحاول المجتمع المدني في المدن الكبرى التأقلم معها ومجاراة مطالبها. كما توحي مناطق انتشارها وتوزعها في طرابلس وعكار وصور وزحلة وعاليه بانتهاء المركزية التاريخية التي طالما مارستها العاصمة بيروت في تحديد إيقاع الحياة السياسية اللبنانية.
 
 الأهم من ذلك كله أن وعيا سياسيا جديدا يتشكل في لبنان، ويؤسس لهوية وطنية جديدة، وتطلعا إلى نظام حكم جديد يطوي صفحة الماضي البغيض . 
لبنان أمام مرحلة حساسة ودقيقة، معالجة الأوضاع فيها تحتاج إلى عناية شديدة، مع عدم تجاهل مطالب المواطنين و يضيع لبنان بين الإنتفاضة الشعبية، ومحاولات تسييسها، أو محاولات تحويلها إلى فوضى وسط استعصاء سياسي. حتى الآن كل الآفاق مسدودة، وعندما تُسدّ الآفاق تضيق المنافذ، فيصبح تنفيس الإحتقان قريباً من الخطر، أو من حدود التوتر. منذ أسبوع بدأ الواقع الميداني والسياسي يدور في حلقة مفرغة، لا يمكن الخروج منها إلا بحصول تطور يغيّر القواعد التي تثبتت.
 
 متظاهرون في الشوارع والساحات في مشهد لم يعهده لبنان من قبل على امتداد جغرافيته، قوى أمنية وعسكرية تحمي المتظاهرين وتمنع أي اعتداء عليهم، وقوى سياسية لا تزال تعاند التعديل الوزاري أو استقالة الحكومة. لا يبدو في الأفق القريب بوادر انفراجة تدفع باتجاه فتح ثغرة في الحائط المسدود الذي وصل إليه التأزّم السياسي في لبنان بما يمكن التأسيس عليه للتعاطي بانفتاح مع المطالب السياسية التي تطرحها الانتفاضة الشعبية كمدخل لتحقيق الإصلاح. وتقول مصادر وزارية بارزة إن المحاولات الجادة التي قام ويقوم بها رئيس الحكومة سعد الحريري اصطدمت برفض الأمين العام لـ حزب الله حسن نصر الله إسقاط عهد رئيس الجمهورية ميشال عون أو استقالة الحكومة أو إجراء انتخابات نيابية مبكّرة، بذريعة أن من يقود الحراك الشعبي انحرف عن المطالب التي طرحها واستبدل بها الهجوم على سلاح المقاومة وإلصاق تهمة الإرهاب بحزب الله.
 
 
 ولفتت المصادر نفسها إلى أن الحريري وإن كان يتعاطى مع الانتفاضة الشعبية منذ اليوم الأول لانطلاقتها على أن هناك أزمة سياسية يجب توفير الحلول لها، وبالتالي لا تُحلّ أمنياً، فإن رئيس الجمهورية ميشال عون بادر إلى تأييد موقفه وإنما على طريقته عندما تحدث أخيراً عن التغيير الوزاري بحسب الأصول الدستورية.
لكن دخول حزب الله بشخص أمينه العام على خط المشاورات أدى إلى تغيير جذري في الأولويات بعدما رفض كلياً الشق السياسي الذي يطالب به المحتجون، فيما يتخذ رئيس المجلس النيابي نبيه بري بحسب هذه المصادر لنفسه الموقع الذي يتيح له مراقبة التطورات من جهة والدخول كطرف في الصراع السياسي الدائر حول القضايا السياسية، طالما أنه لا يوجد توافق على المخرج الذي يؤدي إلى عودة الوضع الطبيعي ولو على مراحل.
 
وبكلام آخر، فإن بري ينأى بنفسه حتى إشعار آخر عن ضخ جرعة من التأزّم من شأنها أن تدفع بالبلد إلى مزيد من التدهور، ويرى أنه لا بد من التوافق سلفاً على جميع الإجراءات ذات الطابع السياسي لأن تعذُّر تأمينه سيرفع من منسوب التوتّر مع أنه بلغ حالياً ذروته. إضافة إلى أنه يتخوّف من أن يلقى أي تفاهم اعتراضا من الحراك المدني لجهة لجوئه للمطالبة بمزيد من التنازلات. أزمة لبنان، في الحقيقة، أكبر من الفساد بالمعنى العائم لهذه الكلمة. وعليه، فحلّها أكبر من حكومة وانتخابات!
إنها أزمة وطن ممنوع من أن يكون وطناً سيداً حراً مستقلاً كي يبقى ورقة ضغط بيد هذا اللاعب الإقليمي أو ذاك، وأو يظل صندوق بريد بين القوى الكبرى واللاعبين الإقليميين.
إنها أزمة هوية مضيعة، وثقافة سياسية سيئة متجذّرة، وذاكرة شعبية ضعيفة انتقائية.
هذه الاحتجاجات الشعبية هي الأوسع والأكبر والأهم ربما في تاريخ لبنان الحديث، ويمكن أن تكون حصيلتها تغييرا سياسيا جذريا في تركيبة السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مشكلة لبنان الكبرى التي أدت إلى إغراقه في هذا الوضع البائس والمنهار هي المحاصصة الطائفية، والصراعات الدينية والمذهبية بين كهنة الطوائف.اعتقد انه حان الوقت للبنان ليتحول من دولة الطوائف والمذاهب الى دولة المواطنة والقانون.
 
خلاصة القول إن الوطن يحمي ويجمع ويوحد، ويضمن للجميع حياة أفضل لا يظهر فيها شبح التفرقة بين أبناء الكيان الواحد، فيما تتسبب الطائفية وخلط الدين بالسياسة في أن نصبح مجرد ضحايا لقوى خارجية وتجاذبات سياسية وخطايا طائفية تقتل في داخلنا جميعاً فكرة الوطن.