من العراق إلى لبنان تبرز موجة جديدة من الحراك العربي الذي يستهدف إعادة بناء دول عادلة، ويربط البعض ذلك بأنه استهداف للنفوذ الإيراني في الإقليم. لكن يتوجب التمعن في مسار كل بلد على حدة وأهمية ضرب الفساد ومنع استمرار تلاشي الدول والأوطان.
 

ينتفض لبنان في لحظة تاريخية مفصلية في مواجهة شبح الانهيار الاقتصادي والمالي وفشل الطبقة السياسية في بناء دولة قادرة وعادلة. يتميز “حراك تشرين” أو “انتفاضة أكتوبر” بحيويته المذهلة وسلميته وعبوره للطوائف والمناطق والطبقات والأجيال وتوحيده للبنانيين بالرغم من اختلافاتهم. لكن حركة المواطنة ستواجه اختباراً دقيقاً إزاء مساعي تحويرها وإجهاضها أو إخمادها وذلك من قبل منظومة سياسية – اقتصادية تحتكر النظام الطائفي وتخشى على امتيازاتها. والأدهى موقف حزب الله السلبي من الحراك، لأن استعادة الدولة تقتضي الإشارة إلى كلفة سلاحه في الداخل والخارج والتي ساهمت في تفاقم الوضع الاقتصادي. لن يكون مسار البحث عن وطن من دون متاعب وآلام ولكن لأول مرة في تاريخ لبنان منذ الاستقلال في العام 1943، هناك منعطف تحول فعلي في مواجهة أزمة بنيوية متجذرة. وبالرغم من مساعي إخماد الحراك، ربما تكون جذوة الأمل في “تشرين” خميرة لربيع في لبنان عاجلاً أم آجلاً.

أطلق البعض على هذا الحراك لقب “ثورة الواتسآب” لأن الاحتجاجات بدأت بالفعل بعد فرض الحكومة رسوماً على المكالمات عبر هذا التطبيق من وسائل التواصل الاجتماعي. لكن النزول إلى الشارع أتى على خلفية تدهور الحالة الاقتصادية والقدرة الشرائية واختفاء الدولار من الأسواق. وفي العمق ينبع هذا الحراك من قلب المعاناة ومن رفض منطق المحاصصة في الفساد ونهب المال العام. والجديد في الحراك الذي دعت إليه بعض حركات المجتمع المدني، أنه من دون تأطير وقيادة مع كسوف لأدوار القوى السياسية التقليدية. ومن خلاصات الأيام الماضية أن لبنان القديم، لبنان التسويات منذ 1943 بطور الانتهاء مع اقتصاده الليبرالي الفوضوي وطاقمه الطائفي والسياسي.

لم نسمع هذه المرة خطب اللغة الخشبية التقليدية، ومن الملاحظ أنه لم يجرؤ أي شخص سياسي منخرط في المؤسسات على الاختلاط بالحشد الذي رفع شعار “كلّن يعني كلّن” للتأكيد على طلب التغيير الجذري.

في غمرة الغضب والصرخة والهدير الممتد من أقصى البقاع إلى صور والنبطية وصيدا في الجنوب ومن طرابلس إلى بيروت ومن جل الديب وضبية إلى جبيل وعالية، يلفت النظر ظاهرتان وهما: بروز الحشد باعتباره الفاعل السياسي الرئيسي، وظهور المفاجأة الكبرى من خلال انبثاق ظاهرة الفرد كموضوع مستقل، نشهده لأول مرة في قلب المدينة متحرراً من ثقل المجموعة والعشيرة وفي هذا خطوة كبيرة لجعل المواطن في قلب عقد اجتماعي جديد بديلاً عن الكائن الطائفي المرتهن لمجموعته والمقيد بسقف المحاصصة والتقاسم الفوقي.

في عام 2005، هرعت الحشود اللبنانية إلى قلب بيروت لتطالب “بالحرية والسيادة والاستقلال” بعد اغتيال الراحل رفيق الحريري، لكن حركتها فشلت في بناء دولة الاستقلال الثاني لعدة عوامل بسبب تركيبتها التمثيلية وقيادتها والثورة المضادة التي أجهضتها.

في عام 2019، تجري نفس الحركة الشعبية في كل مدينة وكل بلدة لبنانية. حيث نسمع نفس الشكوى من الأوضاع الاجتماعية البائسة ومن ممارسات الطبقة المتحكمة.

قبل الانتخابات النيابية في العام 2018، كان مؤتمر سيدر في باريس محاولة لتعويم وضع الاقتصاد اللبناني مع اشتراط البدء بإصلاحات فعلية في قطاعات معينة مسببة للعجز. لكن بعد تضييع الكثير من الوقت لتأليف الحكومة العتيدة لم يتغير أي شيء عملياً وبقي التعطيل سيد الموقف وترسخ المأزق في عدم القدرة على تنفيذ أي مشروع والوفاء بتعهدات أمام المجتمع الدولي والداعمين. وما زاد من حدة الوضع الموقع الكبير لحزب الله ضمن الحكومة والدولة التي لا تسيطر على قرار الحرب والسلم، ومع تحول حزب الله إلى قوة إقليمية مؤثرة تربط لبنان بمحور إقليمي معين، أتت العقوبات الأميركية عليه لتزيد من تفاقم الحالة الاقتصادية وأخذ القطاع المصرفي يتلقى الضربات. وأدى ذلك بالإضافة إلى سياسة مالية مثيرة للجدل إلى خشية اللبناني ليس فقط على قدرة شرائية متآكلة، بل على لقمة العيش والمصير والأفق المسدود.

تكرّس الانسداد بسبب إعلاء الطبقة السياسية لمصالحها الخاصة والنفعية والفئوية فوق مصلحة البلد في كل المجالات وفي معالجة أزمات النفايات والتلوث والكهرباء والمياه. وفيما يحاولون فرض ضرائب على ذوي الدخل المحدود والطبقة الوسطى ينعم الفاسدون بالحصانة السياسية والقضائية ويطال ذلك الأملاك البحرية ومعابر التهريب والهدر في الإنفاق والإدارة السيئة والقطاع العام من دون إنتاجية.

كان النشيد الوطني اللبناني رمز التوحيد بين ساحات الاعتصام والحراك في صرخة من أجل التغيير والكرامة والحرية والعدالة. وبالطبع لن تستكين الأمور بالقمع والالتفاف أو التهديد والتحوير ولن يكون الحل بتبديل الكراسي، بل بتعديل فعلي وتدريجي للنهج والممارسة.

من العراق إلى لبنان تبرز موجة جديدة من الحراك العربي الذي يستهدف إعادة بناء دول عادلة، ويربط البعض ذلك بأنه استهداف للنفوذ الإيراني في الإقليم. لكن يتوجب التمعن في مسار كل بلد على حدة وأهمية ضرب الفساد ومنع استمرار تلاشي الدول والأوطان.