ليس مقبولاً أن يتأخر المرء في تفهم تطوراتٍ كبرى في بلده وفي العالم العربي. لكنّ هذا هو الذي حصل معي في مقالتي بـ«الشرق الأوسط» قبل أسبوعين عن المظاهرات بالعراق والمظاهرات بلبنان. فقد دفعتني الخيبات التي نزلت بالحراكات الجماهيرية العربية منذ العام 2011 للذهاب إلى أنّ الاحتجاجات والتضحيات الشبابية في العراق ولبنان لن تلقى جزاءً ولا شكوراً من جانب الحاكمين بالبلدين، وبخاصة أنه خليطٌ من الميليشيات وساسة فاسدين. وقد لا يسقط قتلى كثيرون بلبنان كما سقط بالعراق، لكنّ الجماهير المحتشدة بالساحات للمطالبة بالخدمات الأساسية والحريات من جهة، ومكافحة نظام المحاصصة الطائفية والفساد من جهة أُخرى، لن تتمكن (بسبب الإطباق الكامل وبالقوة على عنق إدارة الدولة وأنفاسها) من تحقيق شيء معتبرٍ من مطالبها، وهي المطالب البديهية من أي دولة في العالم تجاه مواطنيها!

 


إنني لا أزال على هذا الرأي لجهة عدم إمكان تحقيق الجوهري من مطالب الناس واحتياجاتهم إذا بقيت الترتيبات الطائفية، والميليشيات، وبقي الفساد على حاله وسواده في كلٍ من لبنان والعراق. أما الذي فاتتني ملاحظته فهو الروح المتحفز والمشبوب للشباب والشابات، وسواء في ذلك البلدان التي فشلت فيها الحراكات أو تلك التي لم تحصل فيها هبّات عام 2011، وقد بدا الروح المتجدد هذا في السودان والجزائر والعراق ولبنان، بل وفي تونس أيضاً.

 


لدينا الآن حراكٌ شبابي وطني لبنانيٌّ، فوق طائفي أو غير طائفي على الإطلاق. وكنا نسمع منه وعنه الكثير في تذمر الشبان والشابات من تلاميذنا، وهم من الوداعة والانصراف إلى تخصصاتهم بحيث ما كنت أحسب أن عندهم الوقت والاهتمام للتجمع رغم التذمر. لكنني ومرة ثانية أو ثالثة ما كنتُ أحسب أنّ الشباب، في جيل وسائل التواصل، يمكن لا أن تتوحد وتتفعل وسائلهم فحسب، بل وأهدافهم. هم يملكون إذن الاهتمام والإرادة، وإدراك المصالح الأساسية، والنزعة السلمية التي صارت جزءاً من الفهم الجديد للموقف. كل التنظيرات في القرن العشرين كانت حول العنف الثوري، وهو عنفٌ شكّل أطروحة الماركسية اللينينية، لكنّ تنظيراته امتدت عبر عقود حتى أقصى اليمين. شبان وسائل التواصل يخطئون في التقدير مثل سائر البشر. لكنهم يستخدمون عقولهم ومهاراتهم في الوقت نفسه.

 


لقد عرف لبنان تجربة كبرى في النزول إلى الشارع عام 2005 على أثر مقتل الرئيس رفيق الحريري، وتبلور حراك 14 آذار. لكنّ المشروع وقتها كانت عناوينه البارزة سياسية وتتعلق بالسيادة (تجاه النظام السوري)، وحكم القانون والمؤسسات تجاه تفلتات «حزب الله» وسلاحه. وما أفشله استخدام «حزب الله» العنف ضده وحسْب؛ بل السبب الأهمّ صراع الأطراف السياسية الحزبية المشاركة على التزعم والتفرد. وبعد احتلال الحزب لبيروت بالسلاح عام 2008 على وقع الاغتيالات السياسية المتكاثرة، استطاع الحزب تفكيك حركة 14 آذار بممارستين: إخراج الأطراف السياسية الواحد بعد الآخر بالتخويف والابتزاز - والتحالف مع الشعبوية المسيحية العونية، وتحويل زعيمها الجنرال عون إلى مرشح دائم فأوحد لرئاسة الجمهورية والتي حصل عليها عام 2016 فمثّل ذلك انتصاراً للحزب، أكمله بالانتخابات النيابية التي حصل فيها هو وحلفاؤه وعلى رأسهم الرئيس وصهره جبران باسيل، وبواسطة القانون الانتخابي العجيب على الأكثرية. وبذلك انسدّت سائر منافذ التنفس للنظام اللبناني بعد أن انضم للتسوية الشهيرة سعد الحريري ومن طريق ذلك، حصل على رئاسة الحكومة. وهو الجميل الذي لم ينسه لا للرئيس الجديد، ولا لحسن نصر الله، الذي يعود الآن لدعمه علناً هو والجنرال الرئيس في وجه المتظاهرين الذين امتدوا في سائر أرجاء الوطن!

 


لا يطالب الشبان هذه الأيام إلاّ بإسقاط الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة بدلاً من حكومتي الفساد والإفلاس وانتهاك الدستور وحكم القانون القائمتين شكلاً برئاسة سعد الحريري منذ ثلاث سنوات. ما بقي شيء إلا وجرى انتهاكه من جانب النخبة الجديدة – القديمة، سواء في التعيينات القضائية أو الدبلوماسية أو الإدارية، أو في سياسات لبنان الداخلية والخارجية. ثم تفاقمت الأزمة الاقتصادية والمالية نتيجة النهب والسلب المستمرين على مدى السنوات الثلاث. وكل هذا الفساد الذي مسَّ عصب الجمهورية الحسّاس، كان يجري بحجة استعادة «حقوق المسيحيين» من جهة، وهي «حقوق» ما حصل عليها غير أنصار حزب الجنرال وهم محازبون جميعاً، ومعظمهم غير أكفاء! بينما حصل الحزب ولأول مرة على الشرعية الكاملة لسلاحه غير الشرعي، ومن رئيس الجمهورية بشخصه ومنصبه حين عهد له بمهمتين: ردع إسرائيل لأن الجيش ضعيف، ومكافحة الإرهاب (السني بالطبع). وشهد الحريري للحزب أنه لا يستخدم سلاحه بالداخل رغم مقتل والده رفيق الحريري، والاغتيالات الأُخرى حتى العام 2013، واحتلال بيروت بالسلاح عام 2008، وإسقاط حكومة سعد الحريري الأولى عام 2011 في حادثة القمصان السود الشهيرة!

 


على مدى شهور العام 2019 كانت الإنذارات الدولية والعربية والمحلية تتوالى بأنّ الانفجار وانهيار الليرة حاصلان قريباً. وكان الحريري يؤمّل المواطنين بأن الفلوس الموعودة من مؤتمر سيدر ستأتي بالإنقاذ. ثم اضطر للإعلان أن المقترحات الإصلاحية التي يقتضيها «سيدر» تلقى معارضة قديمة ومستجدة من أطراف سياسية في الحكومة. وقال وزراء القوات الأربعة إنّ المعارضين للإصلاحات (وبالذات منع الهدر في ملف الكهرباء) هم وزراء التيار الوطني الحر. ولأنهم رأوا أنه حتى الإصلاحات المقترحة غير كافية بتاتاً فإنهم استقالوا. وهدد جنبلاط باستقالة وزرائه لكنه لم يفعل. ثم استقبل نصر الله على التوالي جبران باسيل وسليمان فرنجية (وهما المرشحان المتنافسان على رئاسة الجمهورية بعد عون) وخرجا فهددا بعظائم الأمور إن لم تذهب الحكومة ورئيسها إلى سوريا لتحية الأسد بالانتصار، برجاء إعادة المهجرين. وبلغ من حماس جبران باسيل بعد أن استحثه زعيم الحزب على الضغط السياسي للإسهام في انضمام لبنان إلى محور المقاومة والممانعة أنه ناشد رئيس الجمهورية قلب الطاولة على الجميع! وبعد أيام قليلة وبعد أن بدأ الجمهور ينزل إلى الشارع، خرج نصر الله ليعلن دعمه للعهد والحكومة! فنزل الشبان إلى الشارع بعشرات الأُلوف، وخطابهم الموحد إسقاط حكومة سعد الحريري كلها، والمجيء بحكومة غير حزبية وبعضهم يقول غير سياسية أو تكنوقراط. وتجاوز البعض التردد بالدعوة أيضاً إلى إسقاط رئيس الجمهورية أو النظام! وخلال المظاهرات ما بقيت فضيحة من فضائح سائر أطراف الحكومة إلاّ وظهرت في الإعلام على ألسنة المتظاهرين، وما نجا منها الحريري ولا فريقه!

 


النظام اللبناني كله مشارفٌ على العطب. وإن أصرَّ أطراف التسوية وبينهم نصر الله وباسيل والحريري على إبقاء الحكومة على ما هي عليه، فهناك خطرٌ أن يسقط النظام على رؤوسهم جميعاً. لكنّ الذي نعرفه عن تجارب الإيرانيين وأنصارهم أنهم غير مستعدين لقبول الحلول الوسط: فإما استمرار السيطرة الكاملة، وإلاّ خراب البلاد وهلاك العباد، باعتبار أنه لن يبقى أحدٌ غيرهم!
الشباب اللبناني باق. وما نجح باسيل ولا نصر الله في تقسيمه. وهم أكثر شبان المنطقة وعياً ومعرفة بالعالم الحديث. ولن تغرهم طائفيات ولاية الفقيه ولا باسيل. وما لم يتحقق اليوم سيتحقق غداً. وإنّ غداً لناظره قريب!