يصعب أن تستمر الحكومة في ظل المطالبات الشعبية برحيلها، فكل الوقائع دلّت الى أنّ الناس لن يرضوا بوعود كلامية، كما ليست في وارد منح فرصة لقوى سياسية لا ثقة بها، فيما القوى المُمسكة بزمام الأمور ما زالت ترفض التجاوب مع مطالب الناس.
 

يتمسّك طرفان أساسيان ببقاء الحكومة: العهد و«حزب الله». العهد لا يريد أنّ يسجّل عليه أنه خضع لمطالب الناس، لأنّ خضوعه يعني إقراره بالسياسات الخاطئة التي اتّبعها منذ 3 سنوات إلى اليوم. وبالتالي، إنه يريد كسر زَخم حركة التظاهر من دون أيّ تغيير وإعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبل 17 الحالي، ويعتقد أنه يكفي إخراج الناس من الشارع لتعود الحياة إلى طبيعتها، لأنه متى خرج الناس فإنهم لن يعودوا مجدداً.

ومعلوم أنّ العهد لا يستسيغ منطق التنازلات، وقد بنى جزءاً من شرعيته على قاعدة أنه يحقّق دوماً كل أهدافه، ويخشى أنه إذا سلّم بمنطق التنازلات فإنه يدخل في مسار تراجعي، لأنّ التنازل بمفهومه يعني أنه في موقع ضعف، وكل تنازل يَجرّ إلى تنازل آخر. وما حصل في حادثة البساتين، على مَحدوديته، مقابل ما يحصل اليوم، فتح باب التراجع الذي لا يريده أن يتكرر.

فكل الجهد الذي يبذله العهد ينصَبّ على رفض التنازل وإخراج الناس من الشارع، وقد تولّى الرئيس ميشال عون شخصياً قيادة المواجهة على أكثر من مستوى، ما يعني أنه في أوّل أزمة فعلية وكبرى يواجهها العهد عاد الوزير جبران باسيل إلى الصفوف الخلفية، خصوصاً أنّ هناك مَن يحمّله من «داخل البيت» مسؤولية ما آلت إليه الأمور.

فالعهد يرفض التنازل لئلّا يسجِّل التاريخ أنّ الناس ثارت في عهده، في سابقة تاريخية استثنائية، وتوحدّت على مطالب اجتماعية ومعيشية كما لم تفعل يوماً، وحقّقت تغييراً في بنية السلطة. لأنّه من دون التغيير العملي، يمكنه اعتبار الثورة مجرد هَبّة شعبية عابرة. فأهمية تظاهرة 14 آذار مثلاً، أنها ساهمت في إخراج الجيش السوري من لبنان، وأدخلت تعديلاً جوهرياً على بنية السلطة وتوجهاتها. وبالتالي، ما لم تحقّق ثورة 17 تشرين أهدافاً عملية يؤسّس عليها للمرحلة المقبلة، يمكن احتواء الانتفاضة الشعبية وتحويلها مجرد ذكرى وصوراً جميلة.

فهناك اليوم ربط نزاع فعلي بين السلطة، التي لا تريد التراجع، وبين الناس، التي تريد أن تفتح كوّة في بنية السلطة القائمة تمهيداً لتوسيعها تدريجاً. ولا يبدو أنّ السلطة تريد تكرار خطأ 2005 بالتنازل عن جزء من السلطة، إلا إذا أُرغمَت على ذلك.

وفي موازاة رفض العهد الخضوع لإرادة الناس كموقف مبدئي من قبله، إلّا أنّه يرفض في الوقت نفسه الخروج من الحكومة في إدانة مباشرة لفريقه، والأهم أنه لا يريد أن يخسر قدرته على الإمساك بمفاصل القرار السياسي والخدماتي، ولاسيما أنه يتحكّم بوزارات أساسية، وحكومة من دون وزراء للعهد و«التيار الوطني الحر» على أثر ثورة شعبية ضد العهد و«التيار» تعني مَنعه من تعويض خسارته الشعبية واستمرار فصول خساراته الشعبية والسياسية.

 
 

وإذا كان العهد يرفض تقديم أي تنازل للأسباب المُشار إليها ورسالة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أكّدت المؤكد، فإنّ «حزب الله» بدوره يرفض التنازل لـ3 أسباب أساسية:

أولاً، خروج الحزب من الحكومة تحت عنوان حكومة اختصاصيين يُفقِده مشروعية هو في أمسّ الحاجة إليها في مواجهته مع المجتمعين الدولي والعربي ومع واشنطن تحديداً، فهو كان يتجه ويخَطّط لكيفية تعزيز حضوره السلطوي وليس الخروج من السلطة. وبالتالي، فإنه لن يتراجع بسهولة عن هذا الهدف، خصوصاً أنه في مواجهة العقوبات يرى أنّ بقاءه في السلطة يشكّل أفضل مظلّة له.

ثانياً، إنّ خروج الثنائية الشيعية من السلطة يؤدي إلى تقوية الحالة الشيعية المستقلة التي تجرّأت على هذه الثنائية في مشهد غير مسبوق، ويدفعها إلى مزيد من تعزيز حضورها، فيما هدف الثنائية منع هذه الحالة من التعبير عن نفسها مجدداً.

ثالثاً، يعتبر «حزب الله» أنّ خروجه أو إخراجه من الحكومة عن طريق حكومة اختصاصيين يعني افتقاده قدرة الإمساك بمفاصل القرار، وأنّ خطوة من هذا النوع تؤدي إلى عزله. وإنّ عدم مشاركته في حكومات ما قبل عام 2005 كان بسبب حفظ النظام السوري حقّه في المقاومة، ومشاركته بعد هذا التاريخ كانت من أجل أن ينتزع بنفسه هذا الحق في البيانات الوزارية ومشاركته المباشرة. وبالتالي، من سيضمن له هذا الحق بعد خروجه من السلطة؟ علماً أنّ أي بيان وزاري لحكومة اختصاصيين يفترض أن يكون خالياً من أدبيّات الشِعر المعتادة.

وأحد أهداف الحزب الأساسية أن يشكّل أكثرية نيابية ووزارية تمكّنه من تحديد الاتجاهات الاستراتيجية للدولة، من دون استخدام سلاحه. وبالتالي، فإنه لن يقبل بسهولة حكومة اختصاصيين يمكن أن تتحوّل من استثناء إلى قاعدة، وفي مرحلة هو أحوج ما يكون فيها داخل الحكومة.

لكنّ تَمسّك العهد و«حزب الله» بالحكومة الحالية لا يعني إطلاقاً أنّ رغبتهما ستتحقق، لأنّ المبادرة اليوم هي في يد الشارع. فإذا واصَل ثورته فإنّ السلطة لن تجد أمامها سوى التراجع، خصوصاً أنّ عامل الوقت لا يعمل لمصلحتها، بل انه يَصبّ في مصلحة الشارع، لأنّ التظاهر يتم على وقع أزمة اقتصادية خانقة كانت متقدمة قبل اندلاع الثورة، فكيف بالحري بعد اندلاعها وانعدام عامل الثقة بأيّ إجراء يمكن أن تتخذه السلطة أقلّ من رحيلها.

فقوة الناس لا تكمن فقط في أعدادها الضخمة والواسعة، بل في أنها تواجه سلطة ضعيفة يفصل بينها وبين انهيار لبنان عتبة واحدة، وفي ظل انعدام قدرة السلطة على قمع حركة الشارع وإصرار الناس على مواصلة التظاهر، فإنّ السلطة ستصل في الأيام القليلة المقبلة إلى خيار من اثنين: إمّا التجاوب مع مطلب الناس باستقالة الحكومة وتشكيل أخرى من اختصاصيين، وإمّا انهيار كل السلطة على وقع الانهيار المالي. فهل تتنازل السلطة للناس من أجل إنقاذ البلد، أم تواصل محاولاتها لقمع حركتهم وسقوط الهيكل على رؤوس الجميع؟