بعد استقالة وزراء «القوات اللبنانية» الأربعة، وقبل انتهاء مهلة الـ 72 ساعة التي طلبها الرئيس سعد الحريري تلبية لمطالب الشارع، فُتح في الكواليس ملف التعديل الحكومي على أكثر من مسار. فقد كان واضحاً أنّ هناك من استدرج «القوات» الى الاستقالة، ما فتح الباب واسعاً أمام عدد من السيناريوات التي انهارت واحدة بعد أخرى. فما الذي حصل؟ وكيف؟
 

قبل ان ينتفض اللبنانيون كان هناك بين أهل الحكم من يتمنى تعديلاً حكومياً قبل أن تصطدم محاولاتهم باستحالة الخطوة. فمن بين أهل الحكم من كان يريد أن يحمي الستاتيكو القائم لألف سبب وسبب، خصوصاً على مستوى التنوّع المسيحي فيها. ولذلك سقطت سلسلة من المحاولات من أجل التعديل بنصائح داخلية وخارجية انعكاساً جلياً لموازين القوى الداخلية والإقليمية على السواء، ومنعاً لاتساع الشرخ الحكومي، ونتيجة للتردّي في الوضع الإقتصادي والمعيشي، كما النقدي، في ظل ندرة العملة الخضراء الذي مسّ بعض القطاعات الحيوية والخدماتية لكل المواطنين.

بعيداً من الضوضاء الإعلامية، وفيما كانت المقار الرئاسية تراقب ردّ فعل الشارع اللبناني على مقررات مجلس الوزراء، كان فريق من الطبّاخين يستعرض التشكيلات الحكومية المتوقعة بعد شغور منصب نائب رئيس الحكومة وثلاث حقائب وزارية، رغم وجود "الوزراء البدائل" للوزراء المستقيلين، فتوسعت السيناريوات الى ثلاثة، وهي:

- ملء الحقائب الأربع، إثنان من الموارنة وإثنان من الارثوذكس بوزراء أصيلين، بمرسوم يوقّعه ثلثا أعضاء الحكومة من أجل الحفاظ على التشكيلة الحكومية الحالية والإكتفاء بهذه الخطوة في مواجهة الشارع الذي يطالب باستقالة كاملة.

- الإفادة من شغور المراكز الأربعة، والمضي في تقليص عدد الحقائب بالطلب الى أربعة وزراء مسلمين الإستقالة، على خلفية اختيار المراجع الإسلامية. وهنا طُرحت صيغة إلغاء وزارات الدولة والإحتفاظ بالوزراء حاملي الحقائب.

- تغيير حكومي شامل يعيد النظر في الحقائب، فلا يدان أي منهم على خلفية الفشل في إدارة شؤون بعض الوزارات والتسبّب باستفزاز الناس واستدراجهم الى الشارع بالسرعة التي فاجأت الجميع شكلاً ومضموناً.

ويعترف أحد الطبّاخين الذي كان يتولّى جزءاً من المشاورات، أنّ كلاً من هذه الخيارات اصطدم بعوائق وعقدٍ لم يكن من السهل تفكيكها. فالبلاد لا تعيش حالة ترف لإختيار أي منها، فتهاوت وسقطت واحدة بعد أخرى وعلى خلفيات متعددة يمكن الإشارة الى أبرزها:

 
 

- سقط الخيار الأول بعد ان توسعت المفاوضات لتحديد الجهة او الجهات السياسية المسيحية التي ستتمثل بهذه الحقائب الأربع. فتمثيل "القوات اللبنانية" لا يمكن نقله بخفة الى أي جهة أخرى تخلّ بالتوازنات القائمة في ما تبقّى من التركيبة الحكومية، واعتقاد البعض أنّه يمكن زيادة حصة "التيار الوطني" أو حصّة رئيس الجمهورية، هو خيار لا يقبله حلفاؤهما قبل الخصوم. فالتجارب السابقة لا تشجّع على ذلك، عدا عن فقدان الجهة المسيحية التمثيلية التي ستتعاون مع العهد.

- وسقط الخيار الثاني بعدما اندلعت اشتباكات جانبية ضمن البيت الواحد. صحيح انّ هناك عدداً من الوزراء رغب في الخروج من الحكومة، ولكن هناك من يرغب في "تطهير" الصفوف أيضاً. فتجربة الأيام المئة الأولى لم تُنفّذ، وعندما تمّ احياؤها وقع الخلاف بين قطبين. أحدهما كان يرغب في ابعاد البعض بتهمة الفشل في إدارة وزارته، فيما اختار الآخر حقيبة ينوي العودة اليها إذا ما أُسقطت حقائب وزراء الدولة. وفي الوقت الذي حلّت فيه عقدة الوزير الأرمني تلقائياً باستقالة أحدهم من سلة وزراء "القوات"، بقيت عقدة أخرى تمثّلت بصعوبة اختيار هوية "الوزير - الضحية" من الوزراء الدروز الثلاثة.

ففي تركيبتي الـ 22 أو الـ 24 وزيراً لا يتمثل الدروز سوى بحقيبتين، فمن سيكون الضحية، أحد وزراء الإشتراكي أم ممثل "الحزب الديموقراطي اللبناني" الوحيد فيها؟ والى مجمل هذه العِقَد برزت العقدة الأصعب والأكثر ايلاماً، عندما تمّ الربط بين استقالتي وزيرين سياديين، فعُدّ اسقاطهما "كارثياً"، تلبية لأطراف في الحكومة قبل الشارع الذي صبّ جام غضبه عليهما وعلى مرجعيتهما.

- اما الخيار الثالث، فظهر أنّه الأصعب، إذ انّ استقالة الحكومة، وان كانت أقصر الطرق الى تلبية مطالب اللبنانيين في الشوارع، فستفتح الباب على أزمة كبرى ليس أوانها طالما أنّه ليس هناك من بوادر تفاهم على البديل منها. والى الإجماع على رفض هذا المطلب وحرص المجتمع الدولي على وجود حكومة في مرحلة تُعتبر الأدق في حياة لبنان واللبنانيين، عدا عن كون البلاد تتحضّر لبتّ موازنة الـ 2020 ضمن المهلة الدستورية واستكمال الإجراءات التي تقرّر المضي فيها، ومخاطبة المجتمع الدولي والدول المانحة، الذي يطالب بسلسلة من الإصلاحات الصعبة كتلك التي لجأت اليها الحكومة في آخر مقترحاتها على وقع الانتفاضة الشعبية.

وفي ضوء كل هذه السيناريوات، وما آلت اليه، يرغب بعض السياسيين في نفي علني لكل ما طُرح منها وما قيل فيها في الساعات الماضية. ولكن ذلك لا يُقنع العارفين بما هو متداول من صيغ ومخارج وحلولن وإن لم تبتّ اليوم فهي من الإستحقاقات المقبلة على الحكم والحكومة. لذلك تحفل الأوساط السياسية والحكومية بالكثير ممّا هو متداول وبالأسماء، بعدما سمحت "الهبّة" الشعبية بكشف الكثير عمّا كان مستوراً.

وكل ذلك لا ينفي وجود حرب طاحنة بين المرجعيات، فهي على أشدّها. فبالإضافة الى المواجهة بين أهل الحكم والحكومة من جهة وفي ما بينهم ورواد الشوارع والساحات، من جهة أخرى، يبقى الرهان الكبير على ما ستنتهي اليه عملية عضّ الأصابع المتبادلة، ومعرفة من سيصرخ أولاً.