انتفاضة داخل الانتفاضة في البيئة المسيحية. لم يكن أحد يتوقع أن تنتفض هذه البيئة بعد سنتين على إجراء انتخابات نيابية حرمت جميع المستقلّين الحضور في المجلس النيابي، وكرّست فوز «التيار الوطني الحر» والعهد بأكبر كتلة نيابية. كان انقلاباً على وضع سائد منذ عام 2005 ، حين أتى العماد ميشال عون من فرنسا، وتحالف مع «حزب الله»، وفاز بسبعين في المئة من الأصوات المسيحية، مستعملاً سلاح التخويف من التحالف الرباعي، ليعود الى تحالف مع «حزب الله»، تجاوز التفاهم الرباعي الانتخابي بنتائجه.
 

وصل العماد ميشال عون الى بعبدا بقوة التعطيل الذي فرضه «حزب الله» نحو سنتين ونصف، وقبلها دخل الحكومات منذ عام 2008 بالوزن الذي أراده، بقوة التعطيل الذي فرضه «حزب الله»، ولو تمّ احتساب الكلفة الاقتصادية للتعطيل، لفاقت مليارات الدولارات، تماماً ككلفة حرب تموز، التي بدأت بعد تطمين الأمين العام لـ»حزب الله» على طاولة الحوار بأنّه لا حرب في صيف الـ2006 ، داعياً إيّاهم الى الاستعداد لصيف سياحي.

ساهمت كلفة «حزب الله» الإقليمية، سواء لجهة الحرب، أم لجهة تعطيل الوسط التجاري، في هروب رأس المال العربي، والاستثمارات، وعجز ميزان المدفوعات، وفي موازاة ذلك تسابق الائتلاف الحاكم، الى حجز الوزارات الدسمة واستثمارها، قبل انتخاب العماد عون رئيساً وبعده، فكانت السنوات الثلاث الأولى من عهد عون، عجافاً على الاقتصاد، والمفارقة أن سلوك الاستثمار لم يتوقف، حتى قبل ساعات من اندلاع الانتفاضة الشعبية، كما أنّه تمترس في جلسة الورقة الإصلاحية عند موضوع الكهرباء، كأنّ وزارة الطاقة وغيرها من الوزارات كالاتصالات، أصبحت محميات للقوى المشاركة في السلطة.

الولادة الرسمية للانهيار، سبقت ظهوره بسنوات طويلة، وما كان من شرارة «الواتساب» والضرائب إلاّ أن فجّرته. في تونس أحرق البوعزيزي نفسه، فسقط حكم زين العابدين بن علي، وفي لبنان، أحرق قرار الوزير محمد شقير، العهد والحكومة، ولن تخمد النيران بسهولة، فالاحتقان أكبر من أن تستوعبه ورقة من هنا أو مناورة من هناك.

كان الرئيس ميشال عون يحاول طوال أمس شخصياً تفكيك الانتفاضة، خصوصاً في البيئة المسيحية. اتصل بوسائل الإعلام ليطلب وقف بثّها المباشر، لكنه ووجه بالرفض، باعتبار أن وسائل الإعلام لا يمكن ان تتفرج على الحدث، وهي في الوقت نفسه ليست السبب في اندلاعه. أحد أصحاب محطات التلفزيون استغلّ الفرصة ونصح عون باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة اختصاصيين قبل فوات الأوان.

على خطّ بكركي، كان سعي لدى العهد لتضمين البيان الختامي للبطاركة الجملة السحرية، أيّ الدفاع باسم الكنيسة عن موقع الرئاسة ووضع خط أحمر حول بعبدا، لكن الكنيسة كانت اتخذت قرارها، وحصل تواصل مع السفير البابوي، فقرّر المشاركة في اجتماع البطاركة، ووضع اللمسات على البيان التاريخي، الذي انحازت فيه الكنيسة للبنانيين، مع العلم أنّ نواب ووزراء العهد، أغرقوا بكركي بزياراتهم، وكذلك فعلت قيادات أخرى ولو من دون إعلان ذلك.

على خطّ المؤسسة العسكرية، مارس العهد ضغطاً غير مسبوق لوضع الجيش في مواجهة المتظاهرين، وفرض قراراً بفتح الطرق بأيّ ثمن، ولم يكن العهد وحده في موقع الضاغط على الجيش، بل شاركت القوى السياسية المشاركة في الحكومة باستثناء وليد جنبلاط، وحصل اجتماع بين ممثلين لهذه القوى مع مرجع عسكري، لكن كلّ ما تحقق كان محاولة الجيش فتح الطريق في جلّ الديب والزوق، دون ان تؤدي الى نتيجة، في حين تستمر الضغوط، لتكرار المحاولة، لكن الجيش لن يتخطى خطاً أحمر وضعه لنفسه، وهو عدم استعمال العنف والحفاظ على الأرواح، وحفظ الممتلكات العامة، وتفادي دفع ثمن ما ارتكبه السياسيون، الذين يفتّشون عن كبش محرقة للهروب من تحمل مسؤولية الأزمة.