الحكومة اللبنانية باتت في مأزق صعب بعد موافقتها على فكرة التقشف لخفض الإنفاق وهو ما قد يتسبب في إتلاف الروابط السياسية التي تجمع المواطنين بالسياسيين.
 
حاول رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، اقتباس تجربة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تعامله مع محتجّي السترات الصفراء، وذلك بدعوته أولا، للقاء ممثلين عن المظاهرات في لبنان ومن ثمة إعلانه الاثنين عن حزمة إجراءات لخفت الاحتجاجات الشعبية.
 
وتجمع الثلاثاء، محتجون أمام مصرف لبنان، احتجاجا على “الهندسة المالية للمصرف، والسياسات الاقتصادية الخاطئة في لبنان”، وفق ما نقلت وسائل إعلام محليّة رغم كشف الحريري مساء الاثنين عن حزمة من الإصلاحات الاقتصاديّة تلبيةً للاحتجاجات المناهضة للحكومة.
 
وأعلن الحريري، إقرار مجلس الوزراء لموازنة العام 2020 دون ضرائب جديدة، مع إقرار بنود عدة وصفها بالإصلاحية، بينها خفض رواتب النواب والوزراء، وإلغاء وزارة الإعلام ومؤسسات وصفها بغير الضرورية، في محاولة لامتصاص غضب الشارع.
 
لكن، المتابعات تقول إنّه مهما قدّمت الطبقة السياسيّة الحاكمة من حلول، فإن الثقة بين الشارع والدولة اللبنانيّة انعدمت، كما أن اللبنانيين يعلمون أن كل الطرق ستؤدي إلى التقشف لكن لم يعد ممكنا السكوت على السياسات التي أوصلت لبنان إلى هذه الحالة.
 
وتلفت قراءة للتطورات في لبنان صدرت عن مركز ستراتفور للدراسات الأمنية والإستراتيجية إلى أن كل الحلول للأزمة الاقتصادية ستكون صعبة، لكن الشارع اللبناني يبدو أكثر راحة بعد أن انفجر ضد الطبقة السياسية وتحدث بلغة واحدة في احتجاجات شعبية جامعة لا تعترف بالطوائف ولا بالسياسيين.
 
سنة 1989، أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما، لكنه فشل في حل القضايا السياسية التي حرضت على النزاع. لكن، اليوم وبعد مرور ثلاثين عاما، ما زال الوضع السياسي في لبنان واقتصاده هشّين. ويمكن أن تتسبب الإصلاحات الكبرى في محو فوائد العقد الاجتماعي الذي وفر حصة من ثروة البلاد وأخمد النزاع الدامي.
 
وعلى مدار عقود، عانت البلاد من عجز اقتصادي كبير أمام تمويل إنفاق حكومي كبير يذهب جلّه لشبكة أمان اجتماعي تمنع البلد المتنوع اجتماعيا وسياسيا من الانهيار. ويعمق تراجع معنويات المستهلكين، وتباطؤ التمويلات، والتهديد بفرض مزيد من العقوبات لأسباب مرتبطة بإيران الهشاشة الاقتصادية كما تقوض قدرة البلاد على تحمل هذا الإنفاق الحكومي.
 
مأزق التقشف
تجد الحكومة اللبنانية اليوم نفسها في مأزق صعب، فمع تواصل مناقشة ميزانية البلاد لعام 2020، وموافقتها على فكرة التقشف كحل لخفض الإنفاق الحكومي خلال المناقشات البرلمانية. وسيتسبب كل هذا، وفق خبراء سترانفور، في إتلاف الروابط السياسية التي تجمع المواطنين بالسياسيين. ولا يضمن التقشف التخفيف من الاضطرابات الشعبية ولا تقديم دفعة للحكومة الضعيفة.
 
تكمن مشكلة لبنان العاجلة في وجوب وضع خطة فعالة لخفض الإنفاق الحكومي وموازنة سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية. ومنذ عقدين، ثبّت مصرف لبنان سعر الصرف بحوالي 1500 ليرة للدولار الواحد. وساعدت الإجراءات التي بدأ تنفيذها في 1997 لبنان على الخروج من فترة الركود الاقتصادي التي تلت حربه الأهلية المكلفة التي استمرت 15 عاما. لكن الأمر تغير في الأشهر الأخيرة، حيث شهدت الفترة الأخيرة ارتفاعا في سعر صرف الليرة في السوق السوداء، مما زاد من احتمال انحدار قيمة العملة وانهيار مساعي تثبيت أسعار الصرف.
 
ويهدد خطر انحدار قيمة الليرة العقد الاجتماعي الذي تبنّته البلاد في فترة ما بعد الحرب، والذي يضمن اهتمام الدولة باحتياجات المواطنين الأساسية بفضل الرعاية الاجتماعية الضخمة. كما سينتج أيضا عن غياب الاستقرار الاقتصادي في لبنان ضعف في القدرة الشرائية للمواطنين، مما سيؤثر على ثقتهم بالحكومة والنظام الذي جمع المجتمع بمختلف طوائفه في البلاد بعد الحرب الأهلية.
 
وأدى سعر صرف الدولار الأميركي المسجّل مقابل الليرة اللبنانية إلى انخفاض تدفقات الأموال إلى الداخل وزيادة تسربها إلى الخارج. كما أضافت العقوبات الأميركية المناهضة لإيران طبقة أخرى من القلق الاقتصادي.
 
ويجمع العديد من المتابعين للشأن السياسي اللبناني على أن بيروت تجني اليوم أشواك اصطفافات حزب الله إلى جانب إيران المتهمة بزعزعة استقرار وأمن المنطقة، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على حزب الله والكيانات المرتبطة بإيران في لبنان، مثل مصرف “جمّال ترست بنك”.
 
هذه الخطوات قد تكون متبوعة بمزيد من العقوبات على البنوك اللبنانية في الوقت الذي يعاني فيه المقرضون من أزمة مزدوجة، فمن جهة تهدد الولايات المتحدة بمعاقبتهم بسبب صلاتهم بإيران أو سوريا. ومن ناحية أخرى، يطالب البنك المركزي اللبناني بمشاركتهم في جهود الإصلاح من خلال شراء سندات خزانة منخفضة التكلفة للمساعدة في سداد فاتورة خدمة الدين الباهظة التي تعاني منها البلاد.
 
ولحل المشكلة، من الضروري أن تتضمن ميزانيتا سنتي 2019 و2020 تدابير تقشفية غير مسبوقة ووعودا بإصلاحات تشمل قطاع العمل والضرائب في المستقبل. وتتوزع أكبر النفقات في لبنان على خدمة الديون وتكاليف القطاع العام والمدفوعات لشركة الكهرباء الحكومية. لتقليص كل منها، تتضمن خطة الحكومة تدابير تقشفية أو ضغطا على القطاع الخاص. على سبيل المثال، تأمل بيروت أن يساعد الإصلاح الذي يمس الإعانات في خفض التحويلات إلى شركة الطاقة الحكومية، والتي تكلف ملياري دولار في السنة. ولكن، سيزيد هذا من سعر الكهرباء الذي يدفعه اللبنانيون المرهقون من إنفاقاتهم اليومية والمرافق باهظة الثمن.
 
الخبراء يؤكدون صعوبة تجاوز المأزق الاقتصادي بسقوط الحكومة إلا أنه يحسب للاحتجاجات نجاحها في استعادة الهوية الوطنية اللبنانية 
 
وتأمل الحكومة في أن تساعد إصلاحاتها في القطاع العام على تخفيف عبء الأجور الذي يمثل 35 بالمئة من الميزانية. ولكن هذه الإصلاحات ستحد من عدد المواطنين القادرين على الحصول على وظائف في القطاع العام. وتعتبر هذه المشكلة خطيرة في بلد يبلغ معدل بطالة الشباب فيه 37 بالمئة.
 
كما يمكن أن يعتبر خيانة أخرى للعقد الاجتماعي مما سيعمق استياء الشعب من الحكومة الضعيفة. وبالتالي فانه لا توجد حلول لا تشمل تقليص إنفاق الحكومة وتحميل المواطنين اللبنانيين وشركات القطاع الخاص المزيد من الأعباء.
 
وتعتبر تدابير التقشف حتمية، حيث تتطلب المنح والقروض التي وعدت بها الأطراف الخارجية لبنان من البلاد اتباع هذه السياسة من أجل الحصول على الأموال. ومن بين هذه التدابير مؤتمر سيدر الدولي الذي عقد سنة 2018، في باريس بهدف جمع الأموال اللازمة لدعم الاقتصاد اللبناني. ومكّن البلاد من جمع قروض وهبات تتجاوز قيمتها 11 مليار دولار. لكن، وضعت الدول المانحة شروطا يجب أن ينفذها لبنان من أجل إقراضه.
 
ومن بين هذه الشروط أن يتبع لبنان تدابير تقشفية يمكن أن تتسبب في إيذاء قدرة المواطنين الشرائية، وتوجيهها نحو مشاريع بنية تحتية لن توفر أي فوائد فورية للبنانيين المنتمين إلى الطبقة الدنيا والمتوسطة والذين يواجهون صعوبة في تحمل كلفة الغذاء والحفاظ على وظائفهم. علاوة على ذلك، لن تؤدي هذه القيود إلا إلى زيادة عجز الحساب الجاري للاقتصاد اللبناني. وسيرغب الكثير من المستثمرين الأجانب في معرفة ما إذا كان لبنان سينفذ بعض الإصلاحات الهيكلية قبل أن يشاركوا بأموالهم الخاصة.
 
يتخوف خبراء الاقتصاد في لبنان من التداعيات الوخيمة التي ستتركها إجراءات التقشف على الحياة اليومية للبنانيين، خاصة أن مقترحات الضرائب الجديدة وتقليص الوظائف وزيادة أسعار المرافق أحدثت انفجارا شعبيا وهاج الشارع اللبناني ضد الحكومة وكل الطبقة السياسية، التي طالبها بالرحيل دون استثناء.
 
ورفعت الإجراءات التقشفية في ميزانية 2020 من مستوى الغضب المسلط على رئيس الوزراء سعد الحريري والرئيس ميشال عون، مما يضعف مكانتهما السياسية. وشهدت الجهات الفاعلة السياسية القوية، مثل حزب الله الذي يحتفظ بقدم في الحكومة وقدم خارجها، انخفاضا في نسبة دعمها، إذا لم يستطع الحزب الحفاظ على الإنفاق الاجتماعي الذي تتمتع به قاعدة مؤيديه.
 
لكن رغم أن الخبراء يؤكدون صعوبة تجاوز المأزق الاقتصادي بسقوط الحكومة، إلا أنه يحسب للاحتجاجات نجاحها في استعادة الهوية الوطنية اللبنانية وكسر الحواجز الطائفية، وقطع الطريق أمام مبررات السياسيين بإلقاء اللوم على اللاجئين السوريين والفلسطينيين (تشير تقديرات الحكومة اللبنانية إلى أن اللاجئين السوريين يكلفون البلاد مليار دولار بشكل مباشر و3.5 مليارات دولار بشكل غير مباشر). حيث أصبح الخوف من اللاجئين مهربا للسياسيين الذين يواصلون إلقاء اللوم بعيدا عنهم عند الحديث عن الاقتصاد الضعيف في لبنان.
 
الرعاة الإقليميّون
حصرت الاحتجاجات رعاة لبنان الإقليميين في وضعية المتفرج، دون القدرة على التفاعل وأن يسارعوا لإنقاذه كما فعلوا في الماضي. هذا بالإضافة، إلى الوضع الإقليمي عموما الذي لم يعد يملك ترف تقديم المساعدات. فمع تباطؤ اقتصاديات بلدان الخليج وسط انخفاض أسعار المشتقات النفطية، لا توجد إشارات تدل على أنها ستساعد لبنان على تحقيق استقراره من خلال تقديم المنح له.
 
في الحقيقة، يؤثر نشاط دول الخليج الاقتصادي الضعيف على لبنان لأن تحويلات العمال المغتربين المالية في هذه البلدان أصبحت أقل. وفي الوقت نفسه، قد لا ترى المملكة العربية السعودية في مساعدة لبنان ماليا خطوة سياسية ملائمة خلال الأوضاع الحالية. لكنها قد تختار ذلك إذا خلصت إلى أن حزب الله (المدعوم من إيران) سيستفيد من الركود الاقتصادي في البلاد. كما أصبحت إيران، التي تعتبر من رعاة الاقتصاد اللبناني السابقين، غير قادرة على تحمل تكلفة مساعدة البلاد. ولن تتمكن من مد يد العون حتى وإن رفعت الولايات المتحدة العقوبات عنها فجأة.