كسر الشعب اللبناني للمرة الأولى حاجز الخوف، وتخطّى الضوء الاحمر السياسي الذي فرضته عليه السلطة الحاكمة على مدى عقود فانتفض مطالباً برحيلها، مُستبقاً الأوراق الاصلاحية الموعودة، رافضاً إعطاء مهل إضافية للإصلاح أو للتغيير متسلّحاً بعلمٍ واحدٍ أحمر وأبيض تتوسطه أرزة خضراء، أصَرّ على حمايتها من التلوث السياسي والبيئي ومن الاندثار.
 

مُنادياً بإسقاط «كلّن يعني كلّن» جابَ الشعب العظيم الـ 10452 كلم2، ففاقت أعداده التوقعات مُنطلقاً من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مطالباً السلطة الحالية بالرحيل. ومن عكار وطرابلس والكورة وشكّا والبترون وصولاً الى جبيل وجونية والزوق وجل الديب حتى ساحتي رياض الصلح والنجمة، إعتصم المتظاهرون، كلّ في منطقته وعلى طريقته، ووفق قول أحد المتظاهرين: هي ليست صدفة كما هي ليست تحرّكاً مدبّراً، بل هي «تحرك إلهي» داعم للتحرك الوطني الشامل، بعد استجابة الله صلوات ملايين اللبنانيين المقهورين الذين لم يُنصفهم حكامهم منذ عهود، فطفح الكيل.

وربما المشهد الوطني في المناطق اللبنانية كافة، كان دليلاً دامغاً على إصرار المتظاهرين على إسقاط السلطة السياسية ومواجهة منطق تفوّق السلطة المذهبية على الثورة الشعبية... وما جرى في لبنان خلال اليومين الماضيين، يُثبت انه لم يعد هناك مجال لإعادة عقارب الساعة الى الوراء، وما بعد 19 تشرين 2019 لن يكون كما قبله.

نحن الشعب الجارف
عن «شعب لبنان العظيم» قال المواطن أنطوان أمين، المُشارك في تظاهرة الزوق، إنّ الشعب وحده هو من يرفع بإصبعه ويسطّر بأنامله الخطوط الحمراء، معلّقاً: «أخطأ الحكام حين هددوا بقلب الطاولة وبالنهرالجارف، لأنّ الانتفاضة في شوارع الشمال والجنوب والبقاع وبيروت هي التي جرفتهم بصوتها وشعاراتها. ولهؤلاء نقول «هيهات» من عودتنا إلى الوراء فأنتم تحلمون... فنحن لم نعد غَنماً تقودها زعماؤها... وتأكيداً على ذلك «ففي طرابلس أحرقت قصور أقطابها وانتفض شعبها على حكامه، فلم يعد يستطيع الحاكم السني توصيف الثورة بالمذهبية. وكذلك في صيدا والجنوب لم يعد بمقدور الحاكم الشيعي توصيفها بالمسيحية، لأنّ الشيعة طافت أيضاً في صور وصيدا والنبطية وتلاقت أصوات الثوار، ولا عودة الى الوراء فنحن باقون الى يوم القيامة».

في زوق مكايل المشهد «سُكّر»
وصلنا بصعوبة إلى منطقة زوق مكايل التي وصفها لنا انطوني بأنها «سكّر»، وهو الطالب الجامعي الذي نصب خيمته منذ ليلة أمس. وبعد مشاهداتنا تأكدنا من انها «سكّر زيادة»، ليس بسبب قربها من مطعم للحلويات وكرم الضيافة الملاصِق للتجمّع الكبير للمتظاهرين، إنما بسبب لياقة المنظمين، كما المتظاهرين القادمين من جميع المناطق الكسروانية: أطفالا، شباناً، شيباً، تجّاراً، أساتذة، دكاترة من مختلف الطبقات الاجتماعية، تُرافق بسماتهم الهتافات والشعارات المتنوعة: البطالة وقلة الوفاء والغلاء والضرائب وإقفال المؤسسات التي نعمل فيها، وقرارات الموازنة الجديدة التي أوقفت حقوقنا في العمل في وطننا، بالإضافة الى كتابة النكات والطرائف التي تميّز بها المواطن اللبناني في محطات مماثلة. وتساءل أنطوني: «هل سمعت بدولة تقول لمواطنيها أوقفنا التوظيف 3 سنوات؟!». وأجاب: «نحن نقول لهم: بما أنه ليس لدينا عمل نقوم به لـ3 سنوات، باقون في الشارع ولن ترحّلونا، فقصتنا مع لبنان طويلة ونحن من سنرحّلكم».

طوني علِّيي قال انه يحبّ الرئيس عون، ومنذ التسعين ينتظر منه الاصلاح ويؤيّد شعاراته: «إنتظرتُ بعد رجوعه محاكمة الفاسدين، فتفاجأنا أنّ فريقه السياسي شارك الفاسدين في السلطة». لافتاً الى انه يعمل في مرفأ بيروت، وأنّ العمل تراجع الى الوراء منذ عهد عون وليس العكس. وعن سنة 2019 قال إنها «كانت كارثية، ليس في المرفأ فقط بل في جميع مرافق لبنان». وأردفَت زوجته: «لن نخرج من الشارع ما لم نحقق رغبات ابنتي، فشهادتها كلّفتنا أموالاً طائلة، وصرفنا كل أموالنا لنعلّمها، ونرفض الهدية التي قدمتها الدولة لابنتي بالقول لها: لا عمل لك في لبنان».

أمّا رولان فيقول إنه أتى أمس الأول الى الزوق ولم تكن الساحة ممتلئة، ولكنها اليوم امتلأت نتيجة كلمة نصرالله المستفزّة، لأنه رفع السقف في الوقت الخطأ ولم يدرسه ولم يكن موزوناً.

توجّهنا صوب الناشط «عمر عرجا»، وهو من أبرز المنظمين الرئيسيين لحراك الزوق، وسألناه عن سر نجاح الحراك، فشكر كل من شارك معهم في التظاهر المُحقّ الذي يضمنه الدستور، موضحاً: «نحن كمنظمين تحرّكنا أمس الأول في منطقة كسروان ومحيطها، وعالجنا الضعف في التحرك وفي المجموعات التي تحركت من تلقاء نفسها لتقطع الطرقات، بعدما استقصَينا عن أسمائهم وتواصلنا معهم عبر «الواتساب» خوفاً من قدرة السلطة على تفكيكهم بسبب عددهم الضئيل وضعفهم، وتواصلنا مع المنسّقين عن حراكهم وهم فعلاً شباب مستقلون، ولم نكن على صِلة من قبل، فاجتمعنا بعد التواصل ونسّقنا كيفية التحرك، وتواصَلنا مع الاذاعات والـ social media فأوصَلنا رسالتنا بشكل حضاري».

عرجا يقول: «حراكنا ليس حزبياً، لكنّ الامر لا يمنعنا من الإصرار على المطالبة بسقوط هذه السلطة الحاكمة، وبالأخصّ القول لنصرالله إنّ كلامه يُطبّقه في منطقته وليس في مناطقنا، لأنه سياسياً ودينياً يسيطر عليهم. وبالرغم من ذلك وصلهم نداءنا، ووصلتنا انتفاضتهم في صور وصيدا والنبطية. وقد تبدأ ثورتهم صغيرة، ولكن الأهم أنها بدأت». وأضاف: «لا نخاف، ونحن باقون في الشارع حتى سقوط الحكومة. وبالنسبة الى مناظر القمع التي رأيناها في صور والنبطية، يجب أن تنال الحكومة نصيبها من القمع التي تُعامِل به شعبها، وممنوع على دولة ديمقراطية تهديد المتظاهرين بالرصاص، فيجب على الدولة احترام تحرّكهم السلمي».

في طريق العودة الشاقة كانت وفود المتظاهرين تتزايد وتترافَق مع شعارات كثيرة. أوقفتنا السيدة فولا التي قالت إنها شاركت لأنها تحب لبنان، وتحلم بتقديمه هدية بيضاء غالية الى ابنتها حين تكبر، لأنها ترعرعت في الحرب وقاوَمت الهجرة من لبنان، وتريد ان تستمر في مقاومتها لمنع ابنتها ايضاً من الهجرة.

المشاهدات المميزة في ثورة تشرين قد يعتبرها البعض غدر تشريني، إلّا انّ تشرين لبنان أثبت أنّ ألوانه لا تشبه أحزاب لبنان، بل كانت واحدة ثابتة شارعها الشباب، وشعارها الموسيقى والسلام والحب، وقد أوصلوا رسائلهم من خلالها بكل ذكاء وحنكة، فتدافع الشابّات والشبّان الى الذوق لإيصال أصواتهم بحضارة وليس بحرق الدواليب. ويذكّر انطوني الحكّام انّه في حِراك 2015 تظاهر 20 ألف لبناني ضد النفايات، وكان أكبر من حراك 2011. كما انّ الحراك في 19 تشرين هو أكبر من الحراك في 2015. وأيّ حراك في المستقبل سيكون أكبر وأكبر، محذّراً من انّ حراك اليوم سيصل الى المليونين، وهذا ما حصل فعلاً بعدما تلاقى المتظاهرون في «مليونية» تشبه ثورة 14 آذار، والأجدر أن نطلق عليها اسم ثورة الجيّاع والاحرار.

ويؤكد أنيس الرفاعي أنّ لبنان أصبح في مكان آخر، خصوصاً بعد تحرك اللبنانيين في باريس، لندن، اميركا، كندا، استراليا. وما زال الشعب العظيم في لبنان والخارج ينتظر رئيسه ليطلّ عليه ملوّحاً بيده من قصر الشعب، مطمئناً الجمهور الذي تخطّى المليونين أنّ الوطن بخير وإنّ الإصلاح قادم.