منذ 4500 سنة، وحتى دولة نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض، لم ينتخب المواطن العراقي رئيسه بإرادته الحرة، وبدون دم وتزوير وإرهاب وبيع وشراء.
 

تأملوا تاريخ هذا العراق العجيب. لم يحظ سكان هذه البقعة الجغرافية الواقعة بين النهرين الخالدين، دجلة والفرات، من 4500 سنة وحتى أيام عادل عبدالمهدي، باختيار الملك أو الرئيس، أو الوالي، أبدا أبدا.

فهم لم يعرفوا طعم الانتخاب الحر من أيام الدولة السومرية، ثم الأكدية والبابلية والآشورية، ثم حكم الإمبراطوريات الإخمينية والسلوقية، والحكم الساساني، ثم الفتح الإسلامي ودولة الخلفاء الراشدين، فالدولة الأموية فالعباسية ثم سقوطها عام 1258 بغزو المغول بقيادة هولاكو، ثم جنكيز خان، وفي ظل الحكم الإمبراطوري العثماني من 1532 إلى غاية 1918، ثم عهود الاستعمار البريطاني، فقيام الدولة العراقية الحديثة عام 1922، ثم سقوطها عام 1958، وبداية حكم عبدالكريم قاسم، ثم انقلاب عبدالسلام عارف وحزب البعث، ثم عهد أخيه عبدالرحمن عارف، ثم سقوط نظامه ليخلفه أحمد حسن البكر، ثم صدام حسين، فكارثة الغزو الأميركي عام 2003، وتأسيس العراق “الديمقراطي” الأميركي فالإيراني الجديد، ليكون أول رئيس جمهوريته غازي الياور، ثم جلال الطالباني، لدورتين، ففؤاد معصوم، وأخيرا برهم صالح عام 2018.

وكما ترون، من 4500 سنة لم يحكم هذه البلاد إلا حاكمٌ واحد تسلَّط عليها إما بقوة سلاح، أو بقوة دين، أو وراثة.

وباستثناء قلائل منهم، قد لا يتجاوز عددهم الثلاثة أو الأربعة، كانوا عادلين، فإن كل من حكم هذه الأرض وأهلها كان دكتاتورا أشِرا عنيدا منتفخا بحب الذات وجنون العظمة من نوع فريد، حفظ التاريخ لنا حكايات وقصصا مضحكة مبكية عن ظلمه وجنونه. فقد جعل له، وحده لا شريك له، كلَّ ما فوق الأرض، وما تحتها، وما في سمائها وصحرائها وجبالها وأنهارها، أما بشَرُها فهم عبيدُه المطيعون الذين ينعم عليهم بالحياة فقط لمجيده، ولتنفيذ أوامره، ومراعاة مزاجه، وخوض حروبه، والموت في سبيله، ونحت تماثيله، وتقديس أقواله، وتأليف المعلقات والروايات والمسلسلات المطولة عن حكمته وفطنته وبطولته وشجاعته، وهم كاذبون ومنافقون.

ثم، لم يسقط حاكم عراقي إلا بغزو خارجي من دولة قريبة أو بعيدة، أو بمؤامرة من شقيق أو صديق أقوى منه وأكثر عبيدا وأسلحة وخديعة.

ولعل أعجب ما في الأمر أن قليلا جدا منهم مات على سريره، وليس مخنوقا بوسادة، أو مسموما، أو مصلوبا على جذع نخلة، أو مُقطعةً أوصالُه، أو مُقعدا على خازوق، أو مجرورا في الشوارع بحبال، أو محترقا، أو مشنوقا، أو مرميا في قاع نهر عميق.

إذن فمنذ 4500 سنة، وحتى دولة نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض، لم ينتخب المواطن العراقي رئيسه بإرادته الحرة، وبدون دم وتزوير وإرهاب وبيع وشراء.

وعلى هذا يصبح اليوم من غير المشروع، ولا من العدل، ولا من الإنصاف أن نقول إن “العراق يعلن”، و”العراق يقبل”، و”العراق يرفض”، حين يكون رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان أو الوزير أو النائب، هو الذي أعلن، وهو الذي قَبِل، وهو الذي رفض، وليس العراق.

وذلك لأن القاصي والداني يعرفان كيف جلس الرئيس على كرسي الرئاسة، ومن سلّط الوزير والنائب على البلاد والعباد، غصبا وبالقوة، وخلافا للإرادة الحرة الحقيقية لعشرات الملايين من المواطنين المداحين، أو المستضعفين، أو المضلَّلين، أو المخدرين.

وإذا استعدنا ما أعلنته المفوضية العامة العراقية للانتخابات، بخصوص الذين سجلوا أسماءهم للتصويت في انتخابات 2018 التي جاءت بمحمد الحلبوسي رئيسا للبرلمان، وبرهم صالح للجمهورية، وعادل عبدالمهدي للوزراء، سنجد أنهم ثمانية ملايين فقط، من ثمانية وثلاثين مليونا، أي ربع سكان العراق.

ولأن تلك الانتخابات سارت كما سارت أخواتها الانتخابات السابقات دون تغيير فإن ثلث الثمانية ملايين ناخب المسجلين لم يتمكنوا من الوصول إلى صناديق الاقتراع، بفعل حواجز مصطنعة، وبعوائق أخرى اعتاد العراقيون على مصادفتها أيام التصويت.

وبعملية حسابية بسيطة يكون من وصل منهم إلى الصناديق أربعة ملايين ومئة ألف. والحقيقة المفضوحة والمكتشفة والمتداولة تقول إن نصف هؤلاء المصوتين كانوا مأجورين، أو بائعين أصواتَهم بالمال الحلال أو الحرام، أو مَسوقين بفتوى رجل دين، أو قرار شيخ عشيرة، أو بإرهاب قائد ميليشيا يمسك عليهم رزقهم، ويَقدِر على أذاهم وأذى عوائلهم.

والعراقيون يحفظون آلاف القصص والحكايات المضحكة المبكية عن حالات خطف، وقطع طرق، وتزوير، أو شراء بمال، أو بقطع أرضٍ وهمية فضائية أعطيت لناخبين.

وهذا يعني أن عدد المقترعين النهائي لم يتجاوز مليونين وستمئة ألف، فقط لا غير. بعبارة أوضح، إن مليونين وستمئة ألف ناخب عراقي صنعوا هذا المغطس الرهيب لشعب كامل تعداده أكثر من ثمانية وثلاثين مليونا، لا حول له ولا قوة.

ولو عدنا إلى عدد الأصوات التي دخل بها نواب عديدون إلى قبة البرلمان لوجدنا العجب العجاب. فأكثر من نائب لم يحصل إلا على ألف، أو ألفي صوت فقط، ولكن زعيمه أو شريكه في الاختلاس مدَّ له يد العون، وأهداه ما يحتاجه من أصوات تُدخله قبة البرلمان لينوب عن العراقيين، كل العراقيين، في تجليس رئيس جمهورية، وتتويج رئيس وزراء، وتعيين وزراء وسفراء وقادة أمن واقتصاد وثقافة وزراعة وماء وكهرباء، وليصبح، في سنة أو سنتين، من أصحاب الملايين، وربما المليارات، القادر على شراء مقعده في البرلمان في أية انتخابات مقبلة.

ويبدو أنني، من الآن، وحتى أن أموت مغتربا، لن يكون في مقدوري أن أنتخب رئيسا، ذات يوم، كما يفعل المحظوظون في بلاد الله الواسعة. هل أنا مصيب أم في ضلال مبين؟