تبحرُ إيران حين الحديث عن الحوار، في مياه لا تعرفها ولا تدربت على العوْم داخلها. فيما في حديث الحوار في السعودية ما يتّسق تماما مع أعياد الازدهار في المملكة.
 

لا مبالغة في القول إن الرياض وطهران تدخلان مرحلة الحوار. لا يهمّ ما سيصدر عن هذه العاصمة أو تلك، ولا يهمّ بالأحرى ما لا يصدر عن العاصمتين، ذلك أن مصلحة داهمة تفرض على الجمهورية الإسلامية والمملكة إقفال باب المواجهة والمناكفة، والسعي، بصعوبة، للقبول باستكشاف سُبل قد تؤدي يوما إلى مقاربة مختلفة، وربما غير مسبوقة، منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979.

تردّدُ طهران، وأحيانا بانتشاء صبياني، معلومات عن تلقيها رسائل الحوار من الرياض. قد تكون في تلك الهرولة للكشف عما هو مفترض أن يكون سرياً (طالما لم تعلن عنه المنابر الرسمية)، حاجة داخلية لتسجيل “نصر” ما يقنع الرأي العام الداخلي. وقد يكون هذا السلوك جزءا من ثقافة “الثورة” في إيران التي تحوّل المناسبات إلى مهرجانات ردح تضجّ بها الأجواء حتى ينام العباد. وأيا كانت حيثيات الجلبة الإيرانية، فإن ردّ فعل المرشد السيّد علي خامنئي والرئيس الشيخ حسن روحاني والوزير محمد جواد ظريف يكاد يكون مهللا للوحة لطالما كررت طهران المناشدة في رسمها، سواء بالتصريح أو بالتجريح.

كانت للرئيس الإيراني الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي مقاربة مرتبكة للانفتاح على السعودية. كانت الرياض تقابل خطوة طهران بخطوات، لتكتشف في كل مرة أن الطبع يغلب التطبّع، وأن الواجهات المسماة معتدلة لا تملك أن تدلي بدلو يختلف عن الطبيعة العدوانية لنظام “الثورة” في طهران.

يذهب بعض المتشائمين إلى التشكيك بالطابع المنفتح في إيران ومراميه، ولا يؤمنون باعتداله، بل يتعاملون معه بكونه من أدوات نظامٍ شفاف في أدبياته وفي دعواته وفي أهدافه التي لا تواري تطلعات عدوانيته.

بالمقابل تموضعت السعودية منذ اعتلاء روح الله الخميني دفة الحكم في إيران وفق المعطى الذي ينتجه نظام الولي الفقيه في طهران. بدا أن إيران تنافس المملكة على شرعية تستلهم الإسلام والدين وزعامة المسلمين. قابلت السعودية آنذاك “تصدير الثورة” برفع أسوار “الصحوة”، علّها ترد بالدين رياحا تُنفخُ باسم الدين. ولئن صدف أن آمن سعوديون بإمكانية التعايش مع إيران وتصويب ما يمكن أن يكون سوء فهم، فإن إيران ارتكبت سلسلة عمليات ووقائع دموية داخل الأراضي السعودية، بما بدد أي شكوك، ووحد الكلّ السعودي خلف سياسة قادتها الرياض منذ 4 عقود لمواجهة الحلم الإمبراطوري الفارسي العتيق.

تصدحُ منابر طهران مبشِّرة بالحوار والصلح. طبعا تُرفق طهران النزوع نحو السلم بشروط. والشروط من عدّة الشغل والاشتغال على القضايا، وهي جزء من لغة متقادمة قيل يوما إنها خشبية، وهي بعد العقوبات الأميركية، التاريخية، والمهينة، باتت تتوسل قماشة تستند عليها.

بالمقابل تبدو المقاربة السعودية في الانخراط المفترض في قطار السلم تشبه السعودية. لم تَعِدْ الرياض يوما بأنها تسعى للسيادة على العالم وطرد الاستكبار من بلدانه والتطوّع لرد المظلومية عن شعوب الأرض. لم تقلْ السعودية يوما إنها إمبراطورية تسطو على عواصم، ولا بشّرت يوما بذلك. ثم إن في المقاربة التاريخية الجديدة التي رانت البلاد منذ اعتلاء الملك سلمان بن عبدالعزيز عرش البلاد، ما لا يحضِّر الناس لحرب، إلا بالقدر الذي تحتاجه البلاد للدفاع عن نفسها ومسارها ومصيرها.

تتحدث الرياض عن السعودية 2020 والسعودية 2030. ففككت بشجاعة هياكل “الصحوة”، وأدخلت البلاد في عصر التطبيع مع العصر والقطع مع ثقافة غابر الزمان. بات ناس السعودية يتحدثون في مهرجانات الثقافة والموسيقى والفن، ويتدافعون نحو مؤتمرات الاستثمار والسياحة والازدهار. وفي ذلك أن السعودية تجهّز مجتمعها للسلم، والسلم فقط، فيما طهران ما برحت منذ قيام جمهورية “الثورة” تَعِدُ الناس بالحرب والصدام إيذانا بعودة المهدي المنتظر وفق نصوص الفقه السياسي المسخّر لخدمة السلطان. وعلى ذلك تبحرُ إيران، حين الحديث عن الحوار، في مياه لا تعرفها ولا تدربت على العوم داخلها. فيما في حديث الحوار في السعودية ما يتّسق تماما مع أعياد الازدهار في المملكة.

لم يكن هذا الحوار ليقوم قبل سنوات. لم تكن إيران جاهزة لسماع صوت العقل وهي تنتشي بسيطرتها على أربع عواصم عربية وتفتخر ببغداد عاصمة لإمبراطوريتها المزعومة. كان على البلد أن تحاصره العقوبات وأن تحوّله إلى كيان نافر يجري التعامل معه، حتى من قبل الأصدقاء (روسيا والصين مثالا)، بصفته مناسبة للردّ على الولايات المتحدة ومناكفة رئيسها المرشح دونالد ترامب. باتت أساطيل الأرض تمخر عباب المحيطات وتطفو قبالة شواطئ إيران، فيما الروس والصينيون يغتنمون الفرصة التاريخية لكي ينزعوا عن الجمهورية الإسلامية تفوقها الاستراتيجي التاريخي في الإطلالة على مياه الخليج ومضيق هرمز.

توسّلت طهران حربا لا يريدها أحد. نشرت ميليشياتها خلال العقود الأربعة الأخيرة في بلدان المنطقة تفرض حروبها على الآخرين. لا تستطيع إيران أن تربح حربا، وهي التي تجرع مؤسس جمهوريتها كأس السمّ لوقف الهزيمة في الحرب ضد العراق. لا تستطيع إيران أن تربح حربا، لكنها تبحث عنها، علّها تكون بديلا يقنع العالم بحصافة الشراكة معها. فبالنهاية، فإن العلاقات بين الدول، وعلى مرّ التاريخ، لا تُبنى بالضرورة على أساس البناء، بل أيضا تجنبا لعدوانية لا تجيد إلا الهدم والدمار.

لم تحصل إيران على حربها ولن تحصل عليها. رددَ الأميركيون لازمة صدّعت رأس الحاكم في طهران. لا خطط لحرب ضد إيران. لا خطط لقلب النظام في إيران. وخطط كثيرة كثيرة لفرض مزيد من العقوبات الموجعة ضد نظام الولي الفقيه. وقد يبدو كلام الحوار، ذلك الذي بين واشنطن وطهران، أو ذلك بين الرياض وطهران، كأس سمّ جديد تذهب إيران لتجرعه. حتى إن الهجمات التي طالت منشآت أرامكو في السعودية، والتي كان من شأنها أن تفجر حربا كونية ضد إيران، قابلتها السعودية بأداء دولة كبرى لا تطلق التهم جزافا، وتركن إلى تحقيق دولي تشارك به دول العالم.

رأس جبل الجليد في موسم الحوار والتبشير به يمثّله رئيس وزراء باكستان عمران خان. قال الرجل إنه كُلف من قبل واشنطن باستكشاف سبل الحوار مع طهران، وكُلف من قبل الرياض بمهمة مماثلة. لا أحد نفى في الولايات المتحدة ولا أحد نفى في السعودية. قبل ذلك أطلقت جماعة الحوثيين في اليمن وعدا بوقف الهجمات ضد السعودية. كان ذلك إيذانا بدخول إيران موسم الحوار. قابلت الرياض أمر ذلك بالترحيب على لسان نائب وزير الدفاع، الأمير خالد بن سلمان، ليخلص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى نهاية الكلام، من على منبر إعلامي أميركي “الحرب مع إيران ستدمر اقتصاد العالم”.

العالم وازدهاره أهم من إيران ومرشدها. نعم تتجرع إيران الكأس المرّ من جديد.