معركة شباب اليوم بلا غطاء أو دعم خارجي فهي ضد التدخل السافر في شؤونهم من قبل نظام ولاية الفقيه.
 

هناك معادلة سياسية مهمة جديدة أوجدتها انتفاضة شباب العراق بعد 15 عاما من حكم حزب الدعوة والمنظمات الإسلامية وزعامات التقديس المذهبي، والقوى الإسلامية الشيعية التي فقدت آخر أغطيتها.

 

أهم حدث نوعي قد يغفله كثيرون في انتفاضة الأول من أكتوبر هو تغيير معادلة المعارضة للحكام الفاسدين في التخلي النهائي عن المعلبات الأيديولوجية القومية واليسارية والدينية التقليدية التي ارتبطت بعهود ما قبل العام 2003 في العراق. فأبطال تلك العناوين السابقة اندثروا ما بين معارض لم تبق في جعبته غير الذكريات عن الحلم القومي العربي، أو الماركسية اللينينية، أو حكم الخلافة الإسلامية، أو قابل بالمراقبة من بعيد على مشهد بلده الدامي وتأييد أبنائه وأحفاده الفتية بما يصنعونه من أسطورة جديدة. كما سقطت وتفككت جميع الأسلحة التقليدية للحكام الفاسدين بأنهم حماة الدين والمذهب الشيعي لأنهم قمعوا أبناءه وشبابه ولم يعد بمقدورهم تقديم أغطية جديدة للدفاع عن إمبراطورية الفساد ومافياته، فاضطروا إلى الدخول بأدوات القمع التقليدية لمواجهة الشباب الثائر.

 

هذا التطور بقدر ما هو قاس ومؤلم لأن فيه تضحيات بالأرواح إلا أنه يشكل مقدمات للانتصار على القوة الخفية الكبيرة التي اضطرت إلى الدخول بعناوينها وقواها الأصلية وهي النظام الإيراني باسم رئيسه. فعادة ما تلجأ القيادات الإستراتيجية إلى الدخول مباشرة في الاشتباك حين تعجز القوى الفرعية أو تخسر في معركة أو أكثر، وهذا ما يحصل اليوم في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب رغم المحاولات اليائسة لإخفاء عناوين طرفي الصراع وعناصرهما وأسلحتهما وتحويل أنظار الرأي العام إلى فقاعات إعلامية مثل “المدسوسين والمؤامرة على النظام السياسي”، وكأن هذا النظام يكتسب قدسيته وحصانته من رجاله الفاسدين والعابثين بشعب العراق.

 

ولو كانت حججهم حقيقية لبادروا إلى لملمة صفوفهم وغيّروا بعض العناصر الأكثر سوءاً في هذا النظام، وقدموا ما يمكن أن يشكل بداية جدّية للتغيير، لكن ما يحصل هو العكس حيث تتبارى رموز هذا النظام في تجديد تحالفاتها بسبب الشعور بالخطر، وحتى أولئك الذين رفعوا شعارات ما سمي بالمشروع الوطني وركنوا جانباً عن المسؤولية المباشرة يحاولون اليوم تلميع وجوه رفاقهم باستحضار تاريخهم النضالي، وكأن هذا التاريخ الجهادي ضد النظام السابق أصبح له مكان في الحاضر ومتطلباته، ويتم من قبل بعض الأحصنة المتعبة المترهلة التي أُتخمت بالمال والفساد والقسوة على الشعب الصابر الإيهام بجزئيات مثل وضع تبعات الانفجار الشبابي على رأس الهرم الحكومي الحالي، عادل عبدالمهدي، أو تقديم قرارات لمعالجة البطالة والسكن وكأن هذه ليست من أولويات أي نظام لديه الحد الأدنى من مقومات الحكم وهو الذي يمتلك في خزائنه ويسحب يومياً من بطن أرض العراق المليارات من الدولارات دون المس الحقيقي بجوهر مشكلة العراق. ويحاولون تبريد النار في قلوب عوائل الشهداء والعراقيين جميعاً ببعض مفردات الخطابة الملائية وطقوس المسارح الحسينية، وكمّ قليل من هوامش المال، لكن الحقيقة هي التوعد بمزيد من القتل وتمزيق صدور الشباب بعد حملات التعذيب العاصف للمعتقلين على أيدي الجلادين وأخذ التعهدات منهم بعدم التظاهر.

 

خسر هؤلاء الحكام مرتين، الأولى بمعاداتهم للشعب العراقي، والثانية بخروجهم من المعركة الأخيرة كوكلاء للطرف الحقيقي من خارج حدود العراق التي استبيحت وهو نظام خامنئي الذي قرر الدخول في المواجهة في العراق بثقله الأيديولوجي واللوجستي معتقدا، وفقاً لمعلومات وكلائه الذين لم يصدقوه القول، أن المنتفضين في مدن البصرة والناصرية والعمارة وكربلاء وبغداد هم فتية أخذت منهم المخدرات مأخذها، ونزعت منهم البطالة عوامل المجابهة وهم مناصرون للحكم “الإلهي”، ولهذا قدم خطابه لهم على ذات الإيقاع القديم وهو “التصدي لمؤامرة التفريق بين الشعبين الإيراني والعراقي”، مع أن هذين الشعبين يواجهان ذات الظلم والقسوة ويرفضان أن يكونا وقوداً لنار الثورة الإيرانية، كما وجه رأس النظام في طهران لقواته المسلحة بالدخول إلى الأراضي العراقية بعدد معلن 7500 جندي إيراني مسلح تحت غطاء حماية “أربعينية الحسين” ووفق تصريحات رسمية إيرانية في إهانة مباشرة لحكومة عادل عبدالمهدي بأنها غير قادرة على توفير الحماية. لكن الغرض الحقيقي هو مواجهة الشباب الثائرين إن حاولوا تجديد انتفاضتهم بعد العشرين من أكتوبر الحالي وبعد بدء الفصل الجديد من المواجهة بين شعب العراق والدخلاء.

 

يحاول أنصار ولي الفقيه من بين بعض المثقفين والسياسيين العراقيين إيرانيي الهوى والعقيدة تنظيم حملات إعلامية بعضها مسموح به على واجهات قنوات فضائية عراقية وعربية للدفاع عن النظام الإيراني وإبعاد شكوك تورطه في المواجهات الأخيرة. وهؤلاء الإعلاميون والمثقفون يعتدون على هوية الثورة الشبابية ويبررون سياسة نظام طهران في العراق وملأوا الساحة بعد تخلي كثير من المثقفين العراقيين عن الدخول في هذه المعركة الشريفة.

 

ويكذبون بكل وقاحة بالقول إنه “لا توجد سياسة تصدير الثورة”، مع أن دستور النظام يقرّ ذلك. ويغالطون ما رفعه المتظاهرون الشباب من شعارات “إيران برّه برّه” في مدن البصرة والناصرية وبغداد، وتمزيقهم لصور خامنئي، في ردّ عراقي على بعض اللصوص والسرّاق الذين يحمون أنفسهم بالتجرؤ على وضع صور خميني وخامنئي على مكاتبهم. والأخطر أن هؤلاء العملاء للخارج مصرّون على أن فصول المؤامرة ما زالت قائمة وينسجون السيناريوهات “لأميركا والصهيونية” بتنفيذ المؤامرة المزعومة ضد العملية السياسية في العراق وضد نظام طهران رغم أن الرئيس دونالد ترامب أصبح أكثر وضوحاً في حمايته وعدم عداوته لذلك النظام بل يريد تأديب الابن الضال، وأن وضع العراق لا يعنيه الآن.

 

إن معادلة الصراع أصبحت أطرافها مكشوفة وتراجعت الخيوط الضبابية التي كانت في الواجهة. معركة شباب اليوم بلا غطاء أو دعم خارجي فهي ضد التدخل السافر في شؤونهم من قبل نظام ولاية الفقيه، ويعتقد هؤلاء الفتية أن طريقهم قد يكون طويلاً وشاقاً لكنهم سيعيدون لآبائهم وأمهاتهم وأخواتهم كرامة العراقي وقيمه وحقه في الحياة الكريمة، أما الدخلاء والمحتلون فزمنهم قصير.