هنالك في لبنان من هو مقتنع بأنّ الازمات الاقتصادية المتلاحقة والمتفاقمة إنما تخضع لاستثمار سياسي خارجي بتسويق داخلي، ويُدرجها في إطار المواجهة الاقليمية المفتوحة بين الولايات المتحدة الاميركية وايران، والأهم أنّ هذا الفريق يَتحضّر لهجوم معاكس.
 

لا ينكر هذا الفريق، الذي يتألّف بشكل رئيسي من تحالف «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، وجود أزمة اقتصادية ومالية واهتراء في معظم مفاصل الدولة اللبنانية، لكنه يَشتمّ وجود «مؤامرة» خارجية متعاونة مع مسؤولين لبنانيين تهدف الى دفع الناس الى حالة الهلع لتطويق السلطة وإسقاطها. ولا ينكر أحد انّ المعجزة الاقتصادية اللبنانية كانت قائمة منذ نشأة لبنان، فالحسابات العلمية كانت تعجز عن تقديم إجابة مقنعة عن كيفية تعويض لبنان العجز الدائم في ميزان مدفوعاته، وكان التبرير يومها يتركّز على تحويلات المغتربين اللبنانيين.

وفي سبعينات القرن الماضي، كانت هنالك دولارات منظمة التحرير الفلسطينية التي عَوّضت خسائر الحرب اللبنانية. ويعطي الفريق نفسه دليلاً على كلامه بأنه، مع خروج الفلسطينيين من لبنان عام 1982 توقف تدفّق «الدولار» الى لبنان، وبدأت مسيرة انهيار العملة اللبنانية. ومع انتهاء الحرب ووصول رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة، بدأ تدفّق الاستثمارات الخليجية، ليعود التوازن الداخلي الى الأسواق اللبنانية.

وعام 2005، ومع خروج الجيش السوري وبدء مرحلة الصراع ما بين فريقي 8 و 14 آذار، بالنيابة عن الصراع الاقليمي بين ايران والسعودية، تدفقت الأموال السياسية الى الداخل اللبناني وبكميات كبيرة. لكن بعد عام 2011، ومع انفجار الصراع في سوريا، إنتقل الاستثمار المالي والسياسي من لبنان الى سوريا، وبدأت مسيرة معاناة الاسواق في لبنان. كما اضطرّ «حزب الله» لاحقاً الى تحويل قسم من ميزانيته الضخمة الى سوريا لتمويل معاركه.

وأخيراً، مع إطلاق أزمة العقوبات الاميركية القاسية على ايران، تراجعت موازنة «حزب الله» الى النصف تقريباً، وبالتالي تراجع ضَخ الدولار الأميركي في الداخل اللبناني.

إنّ تَوقّف التمويل السياسي الخارجي وتراجع موازنة «حزب الله»، أديّا الى إقفال العديد من المؤسسات الاعلامية، والى الحَد من توافر العملات الاجنبية في الاسواق اللبنانية.

لكنّ تحالف «حزب الله» - «التيار الوطني» ليس موافقاً على أنّ الدولة اللبنانية تتجه الى الافلاس. صحيح أنّ حجم دَيْن الدولة أصبح كبيراً، وأنّ مزاريب الفساد تستنزِف خزينتها، لكنّ الدولة اللبنانية لديها أملاك كثيرة تفوق قيمة الدين أضعافاً مضاعفة، ما يجعل الكلام على احتمال إفلاس الدولة اللبنانية تهويلاً لا يمتّ الى الحقيقة بصِلة، وفقاً لرأي هذا الفريق.

وانطلاقاً من هذه القراءة، يعتقد هذا الفريق أنّ هناك خطة خارجية للضغط على اللبنانيين وإرهابهم، في إطار تطويق رئيس الجمهورية وحليفه «حزب الله» لتعديل موازين القوى السياسية اللبنانية. لكنّ الأهم هو التعاون الداخلي الحاصل لإنجاح الضغط من خلال مواقع لبنانية مؤثرة، والتي تجمع فريقاً لأشخاص كانوا سابقاً ضمن فريقي 8 و14 آذار على السواء. وحسب هذا الفريق، فإنّ اصطفافاً جديداً داخلياً بدأ، ويهدف لإثارة ضغوط اقتصادية كبيرة، وهو ما يُحتّم عليهم مواجهته.


في كلام وزير الخارجية جبران باسيل تلويح بقلب الطاولة، بعد ساعات على لقائه الأمين العام لـ«حزب الله»، وبالترافق مع كلام على وجود تفكير جدي لدى «حزب الله» بالنزول الى الشارع. وما بين الخطوتين زيارة باسيل لدمشق.

«حزب الله» لم يخفِ استياءه من الاجراءات المالية الجاري اتخاذها انصياعاً مع الطلبات الاميركية، بل هنالك كلام أقوى، مفادُه أنّ الجهات المالية اللبنانية تذهب أبعد ممّا تطلبه واشنطن أحياناً، أي مَلكيين أكثر من الملك.

في تقديرات هذا الفريق أنّ الهجوم يحصل من خلال الساحة المالية، ويوجهون إصبع الاتهام الى مصرف لبنان وجِهات مالية ومصرفية أخرى. وبالتالي، فإنّ الهجوم المعاكس لا بد من أن يحصل عبر الساحة نفسها، وفي اتجاه مصادر «إطلاق النار». ولكن حتى الآن لم يحدد «حزب الله» خطة هجومه المُضاد النهائية.

هو تحدّث عن النزول الى الشارع، ربما في اتجاه مصرف لبنان وتنفيذ اعتصام أمامه، أو ربما في اتجاهات أخرى بالتكافل والتضامن مع حلفائه داخل الحكومة. لكنه لا يزال في مرحلة الدرس قبل اتخاذ قراره النهائي، الذي لن يطول. لكنّ هذا لن يعني أنّ الفريق الآخر سيبقى مكتوفاً، وهو ما يدفع للاستنتاج أنّ مرحلة لَي الأذرع لم تعد بعيدة.

والمناخ الاقليمي الملبّد يدفع في اتجاه هذا الاستنتاج، فإيران لن تبدّل في قرارها بعدم التفاوض مع الرئيس الاميركي، أقلّه حتى موعد حصول الانتخابات الاميركية. وهي ستستمر في سلوكها الهجومي في المنطقة، ولبنان هو ساحة من ساحات المواجهة. صحيح أنّ طهران تعمل على استيعاب دول الخليج وفك الاشتباك معها انطلاقاً من تسوية ما في اليمن، لكنّ كباشها سيستمر مع واشنطن في سوريا والعراق ولبنان.

في سوريا الصراع حربي. هنالك دور ما لتركيا تريده واشنطن انطلاقاً من دخولها العسكري في شرق الفرات. ربما تريد توازناً مع ايران وربما اكثر، لكن الواضح انها تريد دوراً أوسع لتركيا على مستوى المنطقة. كما أنّ واشنطن تدرك جيداً أنّ الاكراد سيعمدون الى التخلي عن دورهم في إبقاء اعتقالهم لأكثر من 10 آلاف عنصر من «داعش». ووفق ذلك، يصبح مفهوماً القصف التركي لأحد سجون «داعش» ما أدّى الى فرار إرهابييه.

الأرجح أنّ واشنطن تريد توظيف «داعش» من جديد في الساحة العراقية، طبعاً في وجه ايران. كما أنها ستستفيد من الضغط على الاوروبيين من خلال «داعش»، فسياسة باريس وبرلين لا تروق كثيراً لواشنطن. لكن من يضمن ضبط هروب «الداعشيين» وعدم تسرّب بعض هؤلاء الى الساحة اللبنانية القريبة؟

صحيح أنّ «حزب الله» خَفّض عديد قواته في سوريا من 10 آلاف عنصر الى حوالى الـ1000، لكنّ «ذئاب» «داعش» قد تكون متعطّشة لإثبات وجودها مرة جديدة، والساحة اللبنانية مُغرية، والصراع فيها مفتوح. باختصار، شتاء لبنان سيكون عاصفاً.