بعد أقل من يومين على الحرائق، بدا مجلس النواب أمس خليّة نحل: لجانٌ نيابيّة انعقدت استثنائياً لمعالجة ذيول الأزمة. نوّاب يدخلون إلى غرفة الصحافة وآخرون يخرجون. الجميع يريد الإدلاء بدلوه. ولكن ما هي النتائج العمليّة لكلّ هذه الاجتماعات والمؤتمرات الصحافيّة؟
 

كما يحصل عادة بعد الكوارث، استنفرت الدّولة لمواجهة كارثة الحرائق التي شبّت في عدد من المناطق. بدت فعلياً كمن يذهب إلى الحج والنّاس راجعة.

تيّارات سياسيّة تُعلن وضع إمكاناتها في تصرّف الدولة لتعويض الخسائر. نوّاب يلتصقون بالكاميرات الموزّعة على مراكز فتحت أبوابها لمساعدة المتضررين والمتطوعين في إطفاء الحرائق لتأمين الأكل والمياه والأدوية اللازمة، حتّى وصل الأمر بـ«التيّار الوطني الحر» إلى توزيع عبوات مياه طُبِع عليها شعار «التيّار»!

تيمور جنبلاط مثلاً ينتظر الوقت الإيكولوجي لتشجير المساحات التي التهمتها النيران. آلان الحكيم يضع رقماً متاحاً لكل العائلات التي فقدت منازلها لتأمين منزل موقت لها. سامي الجميّل يُعلن حملة «بيت للكل» لاستقبال عائلات فقدت منازلها خلال الحريق.

هل يعلم هؤلاء أنّ العائلات التي تشرّدت ليل الإثنين وجدت مأوىً عبر مواطنين قدّموا منازلهم؟ هل رأى «عاشقو الكاميرات» أنّ المتضررين والمتطوعين لإطفاء الحرائق لم يموتوا جوعاً، بل نسّق المواطنون مع «أصحاب الأيادي البيضاء» وافتتحوا عفوياً مراكز مساعدات كان أكبرها في «مسبح الجسر».

هناك، وبدلاً من الطلب الى المواطنين إرسال المأكولات والمياه والأدوية والمستلزمات الأساسيّة للأطفال، كانت دعوات إلى التوقّف عن إرسال المساعدات، بعدما تأمّنت بشكل فائض!

كلّ ذلك يُثبت أنّ مساعدات الدولة وصلت متأخّرة جداً، تماماً كالاجتماعات التي عقدتها أمس لجنتا البيئة والأشغال النيابيتان. كلّ من حضر هذين الاجتماعين لا يتأمّل خيراً بأن تصل اللجنتان إلى خطّة عمليّة تُقدّمها، ولو من باب رفع العتب.

السلطة تعاني الفصام؟

هاتان اللجنتان اللتان انعقدتا استثنائياً، أثبتتا أنّ السّلطة تعاني فعلياً من الفصام. إذ كيف يسأل نوابٌ ينتمون إلى أحزاب ممثلة بكتلٍ وازنة في مجلس النوّاب والوزراء على مرّ السنوات الماضية: «وينيي الدّولة؟»، كيف يسأل هؤلاء: «لماذا لم تلحظ الدّولة في موازنتها الأموال اللازمة (100 مليار) لمشروع تثبيت متطوّعي الدّفاع المدني أو كلفة تصليح طائرات «سيكورسكي؟».

ربّما، التبست الأمور على بعض النوّاب الذين يضعون أنفسهم في خانة الشّعب الذي احترقت منازله وتضرّرت أراضيه وتفحمّت سياراته وذهب محصوله الزراعي مع الريح.. ونسوا أنّهم الدّولة باُمّها وأبيها وعليهم أن يُقدّموا الإجابات لا أن يردّدوا أسئلة «الشعب المعتّر».

مُهمّة هؤلاء النوّاب في اللجان النيابيّة واضحة: طرح اقتراحات قوانين، خصوصاً أنّ الكوارث الطبيعيّة قد تقع في أي لحظة، وحتى الحرائق يُمكن أن تندلع الشهر المقبل. فهل حمل أحد النوّاب معه خطّة عمل مستقبليّة؟ هل خرج المجتمعون بتوصياتٍ تؤسّس لمرحلةٍ توحي بأنّ اقتراح قانونٍ سيولد من رحمها؟ هل سيطمئن المواطنون الى أنّ نوابهم يعملون لإجراءات وقائيّة تحميهم في الكوارث المقبلة؟

«كلا».. يجيب غالبيّة النّواب الذين حضروا اجتماع اللجنتيْن. إذاً ماذا كنتم تفعلون؟ يقول أحد النوّاب صراحة: «كنا ننظم القصائد ونتحلّق حول الكاميرات لنقول نحن هنا!».

ماذا حصل في المناقشات؟

في المحصلة، لا تُطعم هذه الاجتماعات خبزاً، ولا يُمكنها الوصول إلى نتيجة. فكيف تصل إلى نتيجة، إذا كان أحد رؤساء اللجان النيابيّة يقول على مسامع الأعضاء عند دخول محافظي المناطق للمشاركة في الاجتماع: «نحن لا نُريد محاسبة أحد!». ثم ما يلبث أن يُبرئ ساحة وزير البيئة لأنّ «ليست مسؤوليته مكافحة الحرائق»، وكذلك ساحة وزيرة الدّاخلية!

لا إجابة شافية عمّن يتحمّل المسؤولية عن عجز السلطة، فـ«الطّاسة ضايعة»، وذمّة الجميع بريئة. تبدو «اجتماعات الزجل» أشبه بـ«حفلة تكاذب» على المواطنين. ما حصل داخلها من تراشقٍ بالمسؤوليّات يُنذر بالأسوأ: وزارات لم تُنسّق بعضها مع بعض. يحاول بعض أعضاء اللجنتيْن رمي المسؤوليّة على المحافظين، فتتظهّر الصّورة واضحة أنّ المحافظين اختلفوا بعضهم مع بعض خلال توزيع المهمات، فيما يتحدّث محافظ الجنوب عن تجربته: «كيف أحمي الأحراج من الحرائق عبر تشحيلها ومراقبة الدّاخلين والخارجين منها أو حتّى متابعة أي حريق فور اندلاعه، إذا كان هناك 5 عاملين (مأمورو أحراج) في كلّ أحراج الجنوب!».

يأخذ بعض النوّاب الموضوع في اتّجاه الدّفاع المدني ليتبيّن أنّ عديده من المثبتين يبلغ 570 عنصراً بينهم 170 إدارياً، ما يعني وجود أقلّ من 400 عنصر ميداني في كلّ لبنان، ويعمل هؤلاء بوسائل بدائيّة: لا آبار إرتوازيّة داخل الأحراج، ولا طرق تسمح بمرور آليّاتهم... يحاول بعض النواب تحويل النّقاش الى «وحدة إدارة الكوارث» التي لم تتحوّل «هيئة» بَعد، معتبرين أنّ أعضاءها لم يتحمّلوا مسؤوليّاتهم، ليظهر أنه خلال اجتماع «الوحدة» كان هناك 48 جهة معنيّة تجلس على طاولة واحدة لمحاولة إطفاء حريق أطفأه هطول المطر.

أين المُحاسبة؟

إذاً، كل محاولات رمي المسؤوليّات لم تأتِ بنتيجة. لم يُحضر أي نائب تقريراً يشرح ما حدث، للاستناد اليه في المناقشات. وأكثر من ذلك، يخرج أحد النواب وبلا دليل حسي ليقول بالفم الملآن: «الحرائق غير مُفتعلة»، مخالفاً بذلك كلام وزيرة الدّاخليّة ريّا الحسن!

وعليه يبقى ملف المُحاسبة. جميع النوّاب الذين خرجوا من اجتماعيْ اللجنتيْن كانوا يطالبون بتشكيل لجنة تحقيق نيابيّة لمعرفة ما حصل، وحتى لا تُسجّل هذه الجريمة ضدّ مجهول.. ولكن هل يأمّلون فعلاً في تشكيلها؟

وحده النائب سيمون أبي رميا بدا متفائلاً في تشكيل هذه اللجنة، مشيراً إلى أنّ التحقيق القضائي الذي طلبه رئيس الجمهوريّة في شأن طوافات الـ«سيكورسكي» يسلك مساره القانوني، والأجهزة الأمنيّة بدأت تحقيقاتها في ما إذا كانت هذه الحرائق مفتعلة.

أمّا النوّاب الآخرون، فيجيبون قطعياً: «لا لجنة تحقيق نيابيّة». يعرف هؤلاء أن لا مؤشرات الى هذا أصلاً، يدلّون بالإصابع إلى اجتماعات دامت ساعات طويلة وبدأت كما انتهت: لا مقرّرات ولا من يحزنون، القرار الأهم الذي اتّخذه المجتمعون هو إعادة تشجير المناطق المنكوبة في غياب خطّة عمل واضحة في المدى المنظور، خصوصاً في ضوء قول رئيس لجنة البيئة النّائب مروان حمادة: «إنّنا خسرنا ثلاثة ملايين شجرة».

في النتيجة، كانت اجتماعات اللجنتيْن أشبه بـ«طواحين هواء». لا أحد يعلم أين البداية. بعضهم يشدّد على ضرورة تحديث القوانين وتثبيت متطوّعي الدّفاع المدني، آخرون يشيرون إلى أهميّة إشراك البلديّات بطريقة أفضل، فيما البعض يؤكّد أنّ البداية يجب أن تكون من المحاسبة.

.. وهكذا خرج النواب بلا اتفاق على قرارٍ واحد. يلخّص أحد أعضاء لجنة البيئة الأجواء قائلاً: «لا تنتظروا منّا شيئاً.. كلام الليل سيمحوه النّهار».