حبيب آيت أ صالح
 
أن تعيش حرا وسط عالم محكوم بنظرة الآخرين، فذلك أصعب من أن يكون حقيقة، كلنا نريد الحرية، وأن نمارس الحياة وفق ما نشتهي، لكننا نصطدم بالواقع الذي يُذكرنا بأننا جزء ضمن جماعة كبيرة، وهي الجماعة التي حددت ما ينبغي أن يكون بغض النظر عن درجة صوابه، وهي الجماعة التي وضعتنا في إطار بات الخروج عنه مدعاة للرفض، هي أمور ترسخت بشكل عميق حتى صارت طبيعية، فلم يعد هينا أن يستشعر المرء حريته كما يشتهي، ويضل بذلك خاضعا للآخرين بشكل أو بآخر، ولابد له أن يتصرف وفق ما يناسب المجتمع، حتى لا يصير منبوذا، هكذا كانت تسير الأمور ولا تزال بوتيرة أقل مما كانت بقليل، وبقدر ما قلت الوتيرة صار الناس يبحثون عن ملاذ آمن لحرياتهم، وباتت الأقلية تؤمن بالحرية أكثر، رغم أن ممارسة الحرية يضع دائما وجود الآخرين في عين الاعتبار، ورغم كل ذلك يحاول المتحررون أن يعتنقوا حرياتهم رغم اصطدامهم المر بالواقع، ويفعلون حيال ذلك ما يستطيعون.
 
 
لطالما كان الآخرون بمثابة قيد للحرية، ولقد صدق جان بول سارتر لما قال بأن الجحيم هم الآخرون، فعلا هم كذلك، وتنشئتنا الاجتماعية تساير هذا الطرح، وتدفعنا لنكون أفرادا داخل مجموعة تشارك وتنتمي وتتفاعل في إطار الجماعة، الأمر ليس صائبا في الحقيقة، ومحاولة ممارسة ما يخالف ذلك يبدو صعبا للغاية، ودائما ما نصطدم بتنشئتنا وثقافتنا التي جعلتنا نسخ متناثرة لعقليات انسجمت بشكل سلبي، قد نبدي اختلافنا ورفضنا لكل تلك السلوكات التي لم تعد ملائمة لطريقة تفكيرنا ولنظرتنا، لكننا ما ننفك نفعل ذلك حتى نتورط من جديد في حقيقتنا، تلك الحقيقة التي يصعب الفكاك منها، رغم محاولتنا الميؤوس منها، نحاول أن لا نكون كذلك، وندرب أنفسنا قدر ما نستطيع، ننجح أحيانا في السيطرة على اختلافنا وفردانيتنا، لكننا نعود إلى ما تربينا عليه في الغالب، نعود مدججين بالخسارة، لقد خسرنا شخصيتنا بسبب تربيتنا التي ورطتنا في خيبات وخطايا تُبعدنا عن إنسانيتنا.

لقد خسرنا جزء من إنسانيتنا وسط هذا المجتمع، نحن مجتمع لم يتبنى الإنسان كمشروع يستحق البناء، ولم نتبنى الإنسانية كعقيدة تدفعنا إلى التعايش في أشد لحظاتنا خصاما، ولم نتعلم أن نرسم أنفسنا بعيدا عما يخططه الآخرون بشأننا، ولم نتربى أن نلوذ بحرياتنا بكل مسؤولية، ولم ندرك الطريقة المثلى للإيمان بعقولنا واستخدامها في سبيل تفكير يدفعنا لنكون الأفضل. كلها أمور صارت بعيدة عن متناولنا، ربما فقدنا بوصلة الخروج من صحراء الجهل التي جعلتنا نعيش ونتعايش بشكل لا يروق لما توجد عليه الإنسانية، رغم الأمور التي تتجلى في هذا الإطار. الإنسان فوق كل شيء، نحتاج أن نبني الإنسان، لكي نسلك الطريق نحو تحقيق مجتمع ينبض بالحياة، وبكل ما من شأنه أن يرتقي بإنسانيتنا، والإنسانية ليست متاحة إلا لمن أدرك كيف يصير إنسانا بمفهومه الشامل. لا تعتقد بأنك إنسان بمجرد ما تنتمي إلى الجنس البشري، فأن تصير إنسانا بالمعنى الواسع للكلمة أعقد من أن تشعر بذلك، وهذا ما ذهب إليه سقراط لما قال بأن الإنسانية ليست دين، إنما رتبة يصل لها بعض البشر، ويموت آخرون دون الوصول إليها. وأن تصعد إلى رتبة الإنسانية فالأمر يتطلب نوع من التعالي عما يعرقل طموحك لكي تصير إنسانا.

 

أنت لست أكثر مما تفعل من أجل ذاتك، إن لم تدرك حريتك في صنع نفسك، فلن تكون نفسك أبدا، ستصير مجرد نسخة ما تنفك تشبه الآخرين، ووسط هذا الضياع لن تجد أبدا السبيل نحو استكشاف ومحاكمة سؤال المعنى، معنى أن تكون إنسانا، وهو أمر يستعصي على التحقق، نصنع معنى إنسانيتنا كلما تسللنا من اختلافاتنا، وانطلقنا صوب ما ننتمي إليه جميعا، أما غير ذلك فلا يمت لوجودنا الإنساني بِصلة، الأغلبية يذوبون في انتماءات صُنعت سلفا، ويجدون ضالتهم فيما هم فيه، وبمجرد ما يتصادمون مع انتماء آخر يرفضون ذلك بكل جهل، على أساس أن انتمائهم هو الصواب. لقد صار التعالي عن الانتماءات مطلبا ضروريا من أجل تحقيق انسجام إنساني يُذكرنا بتَمَيزنا على جميع الكائنات رغم حقيقتنا المُرة، لكن بفضل انتماءنا إلى مطلب مشترك يجعلنا أفضل وأقوى، ويبعدنا عما يمكن أن يعكر تعايشنا المنشود.

 

يظل الكائن البشري معقد كل التعقيد، فما ذكرناه سلفا يبدو مثير للاهتمام، لكن تحقيق ذلك على أرض الواقع يبدو مستبعدا نوعا ما، فليس كل البشر قادرون على التنازل عما يجعلنا مختلفين، نحن مختلفون بالضرورة، لكن هذا الاختلاف لا ينبغي أن يشكل عائقا أمام ما يمكن أن يوحدنا، وقد يؤثر الوعي بشكل إيجابي في تحقيق هذا المطلب الإنساني، وبنفس القدر يعكر الجهل مدى طموحنا في أن ننتمي إلى عالم إنساني متعايش بكل اختلافاته، هكذا هو طريق الجهل، وهذا ما نلمسه في المجتمعات التي لم تجد الطريق الصائب نحو الوعي، فحل الجهل مكان الوعي، فبات بناء الإنسان مطلبا بعيد المنال، ذلك أن أساس الانطلاق نحو الإنسانية هو بناء إنسان منفتح يؤمن بالاختلاف، ويؤمن بالتنوع، ويتعالى عما يعرقل إنسانيته.