حماية النظام في العراق أولوية إيرانية لا تقلّ عن أولويات الحفاظ على نظام طهران نفسه، وضح ذلك في تصريحات بعض المسؤولين الرسميين الإيرانيين وقادة الميليشيات في العراق.
 

لا يمكن الجزم بأن مسلسل تراجيديا قتل الشباب في العراق قد انتهى طالما ظلّت دوافعه قائمة بين طرفيْ الصراع الشعب المظلوم وطلائعه الشبابية من جهة، والحكومة والأحزاب من جهة ثانية. هناك من يرون بأن انتفاضة الأول من أكتوبر لم تتمكّن من الوصول إلى أهدافها السياسية التي ظهرت بعد ثلاثة أيام من عرس الدم لتشديد الضغط على إحداث التغيير في النظام السياسي القائم والذي هو أساس ما يحصل في العراق، لأن ذلك الهدف أكبر من قدراتها وإمكانياتها السياسية والتعبوية والتنظيمية أمام أحزاب وقوى سياسية لديها أجهزة وأدوات عسكرية نظمت وتدربت في الخفاء منذ سنوات على يد خبراء إيرانيين على فنون اشتباكات الشوارع، ولا يهمّها فتح أنهار من الدم العراقي إن تطلب الحال. مثلما حصل ضد مظاهرات الثورة الخضراء في طهران عام 2009 بقيادة حسين موسوي ومهدي كروبي المعارضين لسياسات نظام خامنئي والحرس الثوري، رغم أن تلك التظاهرات كانت من داخل قوى النظام الإيراني لكنها انشقت عن طاعة خامنئي.

 

إن حماية النظام في العراق أولوية إيرانية لا تقلّ عن أولويات الحفاظ على نظام طهران نفسه، وضح ذلك في تصريحات بعض المسؤولين الرسميين الإيرانيين وقادة الميليشيات في العراق بعد اليوم الرابع من الانتفاضة، تجاوبا مع إعلان خامنئي الذي وصفها “بالمؤامرة من الأعداء تهدف إلى التفريق بين إيران والعراق”.

 

هبّة الرئاسات العراقية الثلاث غير المنتظمة والمتسرعة كان غرضها إعلان حالة الدفاع عن النظام السياسي، ومحاولة التعتيم على مساوئه وعدم التقرّب من محرماته، والفصل المصطنع بين كشف حالته وبين المطالب وحصرها بالخدمية. لكن الانتفاضة رفعت القناع الديمقراطي عن وجه السلطة التي ارتبطت بإجراءاتها القمعية، وحين حاول رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي الاستناد إلى دعم مرجعية السيستاني تخلّت عنه مثلما تخلّت عن قبله، بل اتهمت الحكومة في بيانها يوم 11 أكتوبر بأنها وراء عمليات القتل، وأعطت مهلة لمدة أسبوعين لكشف الجناة.

 

وهذا ما وضع انتفاضة الشباب في موقع المنتصر المرحلي في الاستجابة للمطالب الساخنة حتى وإن لم يتم تنفيذها لحدّ اللحظة، ولم تمسّ رؤوس الفساد المعروفة بقوة تتناسب وحجم الانتفاضة الشعبية. كما استطاعت هذه الانتفاضة كشف المضمر لدى السلطة الحالية من أنها تعرف الأسباب المباشرة ولديها الإمكانيات المالية والإدارية إن أرادت التغيير رغم أن الثقة معدومة بينها وبين والجمهور العراقي.

 

والأهمّ من هذه التفصيلات هو أن نقطة التحوّل التي حصلت بعد الأول من أكتوبر كشفت الطرف الثالث في الصراع والمواجهة بين الشعب والحكم، وهذه القوة الثالثة التي وجدت نفسها مضطرة للإعلان عن نفسها بقتل المتظاهرين في عمليات قسم منها من قبل القنّاصين كشفتها الأفلام الموثّقة رغم إجراءات قطع الإنترنت. إن الطليعة الشبابية تمثّل ضمير الشعب العراقي، ونقطة قوتها أنها أسقطت جميع الشعارات المسوّقة عبر مسلسل التظاهرات السابقة والادّعاء بأن من يقف خلفها هم “النواصب والوهابية والبعثيون وهدفها إسقاط دولة الحسين”. هذه القوة الثالثة التي دخلت بقوة في المعادلة لا تمتّ بصلة للعراقيين رغم أنها تحاول التخفّي وراء عناوين بعض الميليشيات المسلّحة الموالية لنظام خامنئي.

في نظام جماعات مافيات المخدرات خاصة في أميركا الجنوبية كالمكسيك وكولومبيا هناك قواعد صارمة للحفاظ على قيادة المافيات الكبيرة واستمرار نهب المال عبر تجارة المخدرات، ومن بين خصائص تلك القواعد انعدام العواطف لدى المنتسبين والمكلّفين لتنفيذ المهمات القتالية للحفاظ على سرية المنظمة وحماية البضاعة بدقة. المقاتلون يجب أن تكون لديهم القدرة على قتل الطفل والمرأة والشيخ، ومن يخرج عن الطريق أو يتخاذل من بين هؤلاء المرتزقة في التنفيذ تتم تصفيته دون تردد، وفي منطق العصابة تتم عمليات ابتزاز للهدف المطلوب بالأموال والعائلة والجنس، ولا تردد في تنفيذ المجازر قبل أن ينمو الخصم ويكبر. وهؤلاء الذين سبق وأن قتلوا المتظاهرين في وقت سابق لهذا الفصل من المواجهة في البصرة وبغداد وكربلاء أو قاموا بتغييب آلاف الشباب في المحافظات الغربية هم من ذات منظومة القتل المأجورة.

إن شيطنة الثوار هو أسلوب قديم استخدمته الحكومات الدكتاتورية والاستبدادية لكنه اليوم فاشل بسبب الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن يقطعها لأيام يعجز عن الاستمرار بهذا الأسلوب البوليسي. قد يحاول عادل عبدالمهدي تنفيذ بعض الإجراءات بحكم حرصه على تمسّكه بالمنصب وشعوره بأنه يقدّم خدمة للشعب وأنه غير مسؤول عمّا مضى، إلا أن الأحزاب ومن خلفها من قوى خارجية مستحكمة لا تسمح بتحولات جدّية للإصلاح السياسي لأنه سيعرض قادة الأحزاب للمحاسبة، وهذا أكبر من قدرات عبدالمهدي وقد تسعى تلك القوى إلى استبداله ليأتوا برئيس وزراء أكثر تعبيراً عن مخططاتهم الجهنمية ضد العراق. وعلى المستوى اللوجستي هناك جهد استثنائي تمارسه القوة الثالثة التي كشفت عن وجهها وقد تدعم عبدالمهدي بإخراج درامي يعلّق الجريمة على بعض الأشخاص وقد يكونون من بين المجرمين المسجونين وفبركة قصة “المدسوسين” ويعرضون على الشاشات، ويواصل السياسيون الفاسدون استكمال العرض الناعم لمخادعة الجمهور واستمرار الظلم والاستبداد.