قد يكون من الأدق الحديث عن أزمة كيان، ولا سيما انّ الاصلاحات لا تستوجب استئذان أحد ويجب السير بها تلقائياً في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. واذا كان لكل حزب خطه الأحمر قد نصل الى الانهيار في ومضة عين.
 

من يراهن على البترول و«سيدر» ينبغي أن يعرف أنّه لا يمكن ان يحدث اي تغيير بلا اصلاحات جذرية ومحاسبة وقضاء نزيه يستدعي من يستدعيه ولا يستأذن احداً في ذلك. وقد يكون الوضع الاقتصادي شبيهاً الى حد بعيد بأزمة اليونان ولا سيما من ناحية النمو والدين والعجز المالي، مع فارق كبير انّ اليونان تدعمها اوروبا وصندوق النقد الدولي وممنوع انهيارها.

أمّا لبنان، ولغاية الآن، لا يدعمه سوى اللبنانيين الموجودين في الخارج، علماً انّ تدفق التحويلات المالية سجّل تراجعاً ويُتوقع ان يكون النمو الحقيقي للناتج سلبياً، فيما الدين العام بلغ مستويات عالية جداً، ما يعني انّ الدين والعجز المالي وعجز الحساب الجاري مؤشرات سيئة للغاية.

ما يزيد الوضع تعقيداً عدم الاستقرار الاقليمي، ما يؤشر الى تغيير في اسعار النفط وغيرها. لكن، وحتى وفق افضل السيناريوهات، قد يكون لبنان في وضعية سيئة جداً، وعلامات التحسّن لم تظهر بعد ولا توجد نية في التغيير لأسباب عديدة، قد تكون مؤشراً للانهيار الكامل والذي بدأت تظهر تباشيره من خلال امور عدة قد تكون اهمها استحقاقات مالية لا يمكن تلبيتها الا بإعادة الاستدانة وبفوائد مرتفعة، الامر الذي يعني في ما يعنيه زيادة الدين وخدمته.

اللجوء الى الهندسات المالية واليوروبوند بفوائد عالية دليل على اننا لا نستطيع ان ندفع مستحقاتنا، وصندوق النقد الدولي سمّى ذلك في حالة اليونان بأنّه تخلّف عن الدفع، أما في حالة لبنان فانّ أي تخلّف عن الدفع سوف يُعتبر افلاساً وقد لا نجد من يشتري اليوروبوند ولو بأسعار فوائد عالية، ولا سيما انّ عامل المخاطرة كبير جداً في ظل الأزمة التي نمرّ بها. وكما هو جليّ فإنّ الدول الخليجية غير مستعدة أبداً للمساعدة، وقد تمظهر ذلك بعد المؤتمر الذي حضره رئيس الحكومة سعد الحريري في الامارات ولم ينتج عنه شيء على حد علمنا.

كلها امور لا تعوّض غياب التخطيط الاقتصادي والاصلاحات الهيكلية، وما لم تحدث تغييرات جذرية في معالجة الامور واحتواء عجز الموازنة وخصخصة القطاعات المسؤولة عن العجز، وقد تكون مؤسسة كهرباء لبنان اولها، فسوف نسير حتماً نحو الانهيار، وعندها لن يعود من شيء ليتقاسمه المسؤولون. وتبقى الخطوط الحمر التي وضعوها قائمة والبلد الى انهيار اكثر فأكثر.

اذا قلنا سابقاً انه لا داعي لخطة ماكينزي، لانّها تقول لنا ما نعرفه من خصخصة وسعر صرف وغيرها، الّا اننا اليوم نقول انّها امور باتت بديهية في ظل ما يحدث بين المصارف والدولة والمصرف المركزي. وقد تكون الهندسات المالية غير مؤاتية، وتكشف حاجات البلاد التمويلية، وقد يكون التخلّف عن السداد خطوة اولى في عملية الافلاس.


ولا بدّ من الاشارة الى الخلافات السياسية التي تعيق الكثير من الامور وعدم توافق الجميع على خطة اصلاحية جذرية، لأنّ لكل فريق مخصصاته ومنتفعاته ولا احد يريد التنازل عمّا هو له. والمخزي في الأمر، انّ عملية الموازنة جاءت ناقصة، ولم تؤدِ الى الخفض اللازم، وحاولت المساس بلقمة العيش دون ان تصوّب على الامور الاساسية والبديهية، وكلنا نعرفها، وهي الفساد والمحسوبية.

الأكيد انّهم يحاولون كسب الوقت، والاكيد انّهم مفلسون وطنياً عندما يتعلّق الامر بأي عملية اصلاحية، وبناء نظام يحقق النمو ويؤمّن للمواطن حياة كريمة من ماء كهرباء وغيرها من البديهيات. وقصة «سيدر» معروفة، وهي مجموعة قروض تساهلية تمّ الاتفاق عليها العام الماضي لكنها جُمّدت حتى تُنفّذ الاصلاحات الموعودة، ونحن نحاول المراوحة والمراوغة ونريد ان نتذاكى على المانحين الدوليين، وهم يعلمون علم اليقين اننا غير جادين في ما نقوم به، والخطوات المطلوبة بعيدة المنال والكل يستخدم موارد الدولة لاغراض سياسية والحكومة غير فاعلة ولم تقم لغاية الآن بأي عمل يُذكر وتتعطّل لأتفه الاسباب. وقد يكون اعتبار إنهاء موازنة 2020 في فترة قصيرة بمثابة انجاز، الا انّه ملهاة لا اكثر في ظل غياب الاصلاحات والمحاسبة.

وقد تأتي الضرائب من جيب المواطن الذي مُنع عليه حتى حق التظاهر. كل هذا في غياب نظرة موحّدة تجاه الأزمة وتفاعلاتها وضرورة المضي قدماً في عملية الاصلاح. لذلك نرى انّ الامور قد تفاقمت واصبحت تُتداول دولياً واقليمياً ولبنان في خضم ازمة مالية يمكن ان تؤدي الى انهيار ما لم يجد وبسرعة مصادر جديدة للتمويل، ولا سيما انّ الدين العام قارب نسبة 150 في المائة من الناتج المحلي. كما يجب اقناع المستثمرين في الاستثمار مجدداً في لبنان والقضاء على الفساد الحكومي الذي يبتلع مليارات الدولارات من ايرادات الدولة. وقد تكون شرارة الخوف بدأت مع أزمة الصرف ومحاولات الناس سحب الدولار من حساباتها.

كلها امور لا تحلّها موازنة 2020 ما لم تكن عملية اصلاح جذرية يُفرج معها عن اموال «سيدر»، علما انّ هذه الأموال ليست سوى جرعة صغيرة في مسار اصلاحي طويل تحلّ معه ازمات عدة ولا سيما ازمة الكهرباء التي باتت عبئاً لا يُحتمل في موازنة الدولة. وقد تكون الخصخصة اهون الشرور.

والأهم اننا في مخاض خطير قد ينتج منه افلاس وتدهور سعر الصرف، ولا سيما انّ معالجة الامور كما سبق وذكرنا تتطلب توافق جميع الاطراف، فيما كل طرف مصرّ على حفظ حقوقه ومخصصاته دون احتساب ما قد يحصل نتيجة لذلك.

لبنان على مفترق طرق والاستحقاقات تداهمنا، والسياسيون لم يتوافقوا بعد على خطة اصلاحية تنقذ البلد، لذلك قد يكون من الأجدى تسميتها أزمة كيان.