مصروف بلا مدخول. هذه باختصار، حال البلد اليوم. وهو وضع يعني انّ الخلاف على التوصيف حُسم، وبات النقاش محصوراً في تحديد الوقت الذي يستغرقه نفاد ما تبقّى من مال.
 

في المستجدات الأخيرة، يمكن تسجيل مجموعة ملاحظات اضافية تساعد في تسليط الضوء أكثر على ما هو متوقّع في الايام الطالعة، الأخطر بينها تقرير البنك الدولي، الذي أشار الى نمو سلبي طوال السنوات الثلاث المقبلة. ماذا يعني ذلك؟

اولاً- في ظل النمو السلبي، (recession) تتراجع فرص العمل الى مستويات دنيا. وتواجه المؤسسات عموماً تراجعاً في حجم الاعمال والايرادات، وبالتالي تزيد نسبة البطالة، سواء بسبب انعدام الفرص الجديدة، أو بسبب اضطرار مؤسسات الى خفض عدد العاملين لديها، او الاقفال النهائي.

ورغم انّ نسبة البطالة القائمة حالياً في لبنان غير مؤكّدة، بسبب تضارب الارقام التي تبدو أقرب الى التقديرات منها الى الاحصاءات، إلّا أنّ الأكيد انّ النسبة مرتفعة، وسترتفع اكثر في مرحلة الانكماش.

ثانياً - يتراجع حجم إيرادات الخزينة، الناجم عن الضرائب والرسوم على أنواعها، وبالتالي، يصبح احتمال الخطأ في تقدير الايرادات أكبر من السابق، واذا لم يؤخذ هذا الواقع بالحسبان، يرتفع العجز في الموازنة بما يفوق التقديرات المبنية على حسابات لا تستقيم في حالات الانكماش.

وهنا تجدر الاشارة، وعلى سبيل المثال، الى انّ ارباح القطاع المصرفي ستتعرّض لضغوطات كبيرة بسبب انحسار حجم الإقراض الى القطاع الخاص، وهذا سيؤدي بدوره الى خفض ايرادات الخزينة بنسبة كبيرة، على اعتبار انّ حوالى 68% من ايرادات الضرائب على أرباح الشركات مصدرها المصارف.

ثالثاً - يرتفع حجم الدين العام قياساً الى حجم الاقتصاد Debt/GDP بوتيرة أسرع. ومن المعروف انّ الدين العام اللبناني لم يتوقف يوماً عن النمو، لكن خطورة الدين كانت تتفاقم أو تخبو وفقاً لنمو حجم الاقتصاد.

وهذا ما أدّى في السنوات 2008 و2009 و2010 و2011 الى تحسّن مؤشر الدين العام. إذ من المعروف انّ الدول تعتمد اسلوب تكبير الاقتصاد في معالجة أزمة الدين. وعلى سبيل المثال، كان حجم الدين في لبنان الى حجم الاقتصاد 144% في العام 2009. وقد انخفضت النسبة تباعاً، وبفضل نمو استثنائي، ورغم استمرار نمو الانفاق، الى 130% في العام 2012.

ثم عاود مسار الارتفاع بسبب تراجع نسبة نمو الاقتصاد حتى وصلت الى 155% في العام 2018. هذه النسبة التي تؤشّر الى خطورة حجم الدين على الاقتصاد والمالية العامة للدولة، مُرشّحة للارتفاع بأسرع من السابق، بسبب استمرار نمو الدين، وتراجع حجم الاقتصاد.

وسيصبح لبنان في المرتبة الاولى أو الثانية في العالم من حيث حجم ديونه نسبة الى اقتصاده. وتكمن خطورة ارتفاع نسبة الدين الى الاقتصاد بالنسبة التي تصبح مطلوبة لوقف التدهور. ففي الحالة اللبنانية مما هي حالياً، ينمو الدين العام حوالى 8% سنوياً، ما يعني اننا نحتاج الى نمو اقتصادي بنسبة 12% لكي يبقى الوضع على ما هو عليه.

رابعاً - في ظل استمرار ارتفاع اسعار الفوائد بسبب انحسار الثقة وزيادة المخاطر، تصبح مفاعيل الركود والانكماش اشدّ خطورة. اذ من المعروف انّ اقتصاديات الدول تعتمد على خفض الفوائد للجم الانكماش والركود (deflation + recession)، وهذا ما تفعله اوروبا حالياً عبر سياسة البنك المركزي الاوروبي. لكن في الوضع اللبناني من المرجّح ان تواصل الفوائد الارتفاع، بسبب استمرار تراجع منسوب الثقة، وهذا الامر سيجعل الانكماش اشدّ خطورة من حيث التداعيات على مُجمل المشهد الاقتصادي.

خامساً - سيؤدي الركود والانكماش الى ارتفاع حالات الافلاس في المؤسسات، والى ازدياد عدد المؤسسات والافراد الذين سيتعذّر عليهم دفع قروضهم للمصارف.

وهذا الامر سيؤدي الى تضخّم حجم محفظة القروض المشكوك في تحصيلها في دفاتر المصارف، بما سيفاقم بدوره الضغط على ارباح المصارف. بالاضافة الى الضغط الناجم عن خفض تصنيف المصارف، استلحاقاً بخفض التصنيف الائتماني للدولة، والذي سيضطر القطاع المصرفي الى زيادة اقتطاع مؤونات إلزامية لتغطية القروض.

الى كل هذه التداعيات الناجمة عن بدء مرحلة الركود، سيواجه الاقتصاد أزمة استمرار شح الدولار اكثر فأكثر، خصوصاً انّ المؤشرات تؤكّد انّ منسوب الاموال التي تدخل الى البلد ينخفض بقوة، وهذا الانخفاض يشمل بطبيعة الحال الاموال المخصّصة للاستثمارات، واموال اللبنانيين العاملين في الخارج.

ومن المعروف انّ قوة الاقتصاد اللبناني لطالما اعتمدت منذ عشرات السنين على تدفق الاموال، والتي تشكّل في مجموعها ما يوازي حوالى 35 الى 40% من حجم الـGDP.

وهذه من اكبر النسب في العالم. اليوم، ومع انخفاض هذا التدفق الى مستويات غير مسبوقة، وفي موازاة خروج رساميل، وانتقال قسم من الاموال من المصارف الى المنازل، سيكون الطلب على الدولار أقوى، وأزمة السعرين ستستمر بوضوح اكبر. ولا توجد تقديرات أو توقعات محدّدة للسقف الذي قد يبلغه سعر الدولار في سوق الصيرفة بعد بضعة أشهر.

هذا الواقع يدفع الى الاعتقاد انّ الحديث عن اجراءات روتينية، اصلاحية أو تقشفية قد يصبح بلا جدوى. لأنّ المطلوب صار اكبر من مجرّد اجراءات. ومن دون صدمة ايجابية من العيار الثقيل، وبحجم خطورة الوضع، سيكون الافلات من الكارثة أشبه بضرب من الخيال