هل يؤدي دخول تركيا إلى الشمال السوري إلى تحريك «الستاتيكو» الذي طبع الوضع السوري في السنوات الأخيرة، أم أنّ الأضواء الدولية والعربية ستخفت من جديد بعد انتهاء العملية العسكرية ليعود الجمود إلى سابق عهده؟
 

أعادت أنقرة، بعمليتها العسكرية، المسألة السورية إلى صدارة المشهد السياسي في المنطقة، فيما كانت قد تراجعت في السنوات الأخيرة لمصلحة تقدُّم العنوان الإيراني وكل ما يتصل به من عقوبات ومفاوضات وحروب بالواسطة وتصعيد سياسي، وكان الانطباع أنّ كل الملفات الساخنة أُجّلت إلى ما بعد التسوية الأميركية-الإيرانية من منطلق أنّ حلّ أزمات الشرق الأوسط غير ممكن بالمفرّق، وعن طريق فصل الأذرع الإيرانية عن مركزها الأم في طهران، بل وَجب إبرام التسوية مع الدولة الإيرانية كمدخل لمعالجة الأزمات الأخرى باعتبارها المحرِّك لكل تلك الأزمات.

 

والدليل على تجميد كل الملفات، ربطاً بما ستؤول إليه المفاوضات الأميركية-الإيرانية، انّ الحرب السورية انتهت مبدئياً، فيما التسوية السورية ما زالت معلّقة على مصير تلك المفاوضات، إلّا إذا أدّت العملية العسكرية التركية إلى تحريك «الستاتيكو» وفصل الحلّ السوري عن الحلّ في المنطقة، فتكون المسألة السورية قد دخلت مسار الحلّ الموعود.

وكل المؤشرات تفيد أنّ من مصلحة نظام الأسد استمرار الوضع الحالي الذي يتربّع فيه على رئاسة سوريا، ولو من دون سلطة فعلية على الأرض ولا اعتراف دولياً بشرعيته، لأنّ أي تسوية سورية لن تعيد سوريا الى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب، ولو كانت هناك نية دولية في ذلك لكان انتهاء الحرب توِّج بإعادة الاعتبار للنظام القائم.

وفي موازاة تصدي الولايات المتحدة لكل محاولات التطبيع مع النظام السوري وتجميدها ملفّي إعادة النازحين والإعمار ربطاً بالحلّ النهائي، فقد برزت في هذا السياق 3 مواقف تستحق التوقف عندها: أولاً، موقف الجامعة العربية المُندِّد بالتوغل التركي، والذي شدّد في البند التاسع من البيان الختامي على «أهمية البدء الفوري في المفاوضات السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة، خاصة في إطار اللجنة الدستورية التي أعلن عن إنشائها أخيراً، لتطبيق العناصر الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254، والتوصّل الى تسوية سياسية للأزمة السورية وإنهاء معاناة أبناء الشعب السوري».

 

فالموقف العربي شديد الوضوح والتمسّك بالمرجعية الدولية للحل، أي القرار 2254 الذي يستند إلى بيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران 2012، و«بيانَي فيينا» «كأساس لانتقال سياسي بقيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريّون زمامها من أجل إنهاء النزاع في سوريا، يشدد على أن الشعب السوري هو من سيقرر مستقبل بلاده».

وفي هذا الصدد أساء وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل تقدير الموقف العربي، فظنّ انّ الدخول التركي المتزامِن مع التردد الأميركي المائِل نحو الانسحاب من المنطقة والطَحشَة الإيرانية والتراجع العربي حيالها... ظنّ انّ كل تلك العوامل تشكّل فرصة للمطالبة بعودة نظام الأسد إلى الجامعة، فأساء التقدير وأساء الى موقف لبنان الرسمي الذي ظهرَ أنه خارج التوَجّه العربي المتمسّك بالمرجعيات الدولية للحلّ في سوريا، والرافض أي تهاون مع النظام السوري.

والأسوأ أنّ موقف باسيل المطالب باستعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية ليس الأوّل من نوعه، بل هو موقف مكرر، وأثار في حينه موجة اعتراضات خارج الحكومة وداخلها، طالبت باسيل بأن يعبِّر عن موقف لبنان الرسمي وليس عن موقفه الشخصي، وكان الظنّ أنه تعلّم من الخطأ الأول الذي ارتكبه، إلّا أنّه فعلها مجدداً متجاوزاً موقف الحكومة وسياسة النأي والموقف العربي بشِقّيه العربي والدولي، لجهة أنّ الحل يجب ان يرتكز على قرارات الشرعية الدولية وليس على الأمر الواقع الذي يحاول أن يفرضه الإيراني او الروسي.

ثانياً، عدم تَمكُّن مجلس الأمن الدولي من الاتفاق على بيان في شأن العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، فاختلف أعضاؤه على «الادانة» او عدمها، الأمر الذي يؤشّر إلى غطاء دولي للدخول التركي الذي لا يبدو أنه سيقتصر دوره على إنشاء منطقة آمنة، إنمّا أن يكون قوة توازن سنية على الأرض مع موسكو وطهران. ومع الدخول التركي ازداد الوضع السوري تأزماً ودَلّ الى عدم وجود دولة سورية، لا على أرض الواقع ولا على المستوى الدولي والعربي، بل انّ تقاسم النفوذ الخارجي داخل سوريا هو سيِّد الموقف، وبالتالي أي حلّ سيأخذ في الاعتبار كل تلك المعطيات.

ثالثاً، الموقف اللافت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أطلقه عشيّة زيارته التاريخية للمملكة العربية السعودية، وأعلن فيه أنّ «سوريا يجب ان تتحرر من الوجود العسكري الأجنبي. ونحن مستعدون للخروج من سوريا عندما تطلب منّا حكومة شرعية جديدة ذلك».

فعندما يربط بوتين خروجه من سوريا بقيام حكومة شرعية جديدة يعني أنّ الوضع القائم في سوريا، بالنسبة إليه، موقّت وغير شرعي، وإطلاقه هذا الموقف عشيّة زيارته السعودية يعني أنّ موسكو لن تسير بحلول ضد الرياض أو لا ترضيها.

فما بين الدخول التركي والموقف الروسي والعربي والدولي يظهر أنّ الموقف الإيراني صار وحيداً على هذا المستوى، إلّا أنّ السؤال الأساس: هل تؤدي العملية العسكرية إلى تحريك «الستاتيكو» السوري وإخراج المنطقة من ثباتها وجمودها؟

وفي الإجابة تقاطعت أوساط ديبلوماسية عربية وغربية على القول إنّ واشنطن تريد السير في خطّين متوازيين: مواصلة العقوبات على طهران، والتي ستدفعها عاجلاً أم آجلاًّ إلى الجلوس حول طاولة المفاوضات، وفصل سوريا عن إيران سياسياً بعدما حالت التطورات العسكرية دون التمكن من تحقيق هذا الفصل. ولذلك، ستطلق العملية التركية دينامية تفاوضية تؤدي إلى حلّ النزاع السوري بشروط دولية تفضي الى قطع أوتوستراد طهران بيروت في دمشق.