ما من شك في أنّ الدخول العسكري التركي الى شرق الفرات او منطقة نفوذ أكراد سوريا، يؤشّر الى بداية مرحلة جديدة من الصراع الدائر في سوريا وفي الشرق الاوسط.
 

الصحافي الاميركي الشهير توماس فريدمان، كتب أنّ انسحاب دونالد ترامب من سوريا سيجعل الشرق الأوسط أكثر تفجّراً.

قبله كتب الرئيس الاميركي على «تويتر»، فقال إنّ الحروب الغبية التي لا نهاية لها انتهت بالنسبة إلينا. وقوله إنّ هذه الحروب لا نهاية لها، يعني أنّه مدرك أنّ اللهيب سيسود مرحلة ما بعد الانسحاب الاميركي من سوريا.

ومنذ أسبوع صرّح وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو، من اليونان، أنّ هذه المنطقة تشهد ديناميكية، ويجري فيها الكثير الكثير من التغيير.

ولا شك في أنّ القرار الاميركي بالانسحاب من سوريا أخذ جدلاً كبيراً قبل إعلانه للمرة الاولى نهاية العام الماضي، قبل التراجع عنه بعد ان قدّم وزير الدفاع الاميركي السابق جيمس ماتيس استقالته، احتجاجاً على القرار ورفضاً له.

وما بين ذلك التاريخ واليوم حوالى 10 أشهر احتضنت كلاماً وتفاهمات كثيرة، جرى نَسجها في الكواليس وطالت أكثر من جهة.

وتتحدث الاوساط التركية عن خطة من 3 مراحل، بدأ تنفيذها:

- المرحلة الأولى، تتضمّن توغلاً عسكرياً تركياً داخل الاراضي السورية بعمق يصل الى 30 كلم، وحدّدت مهلة الاسبوعين لتنفيذها.

- المرحلة الثانية، تتضمن بَسط نفوذ تركيا من خلال جيشها، اضافة الى المجموعات الموالية لها على مناطق شرق الفرات.

- المرحلة الثالثة، تتضمن سَعي تركي لنقل النازحين السوريين الموجودين على الاراضي التركية الى مناطقهم في شمال سوريا.

وهذه المرحلة هي الأكثر إثارة للجدل والأكثر خطورة.

واذا كان البعض يرى في هذه الخطوة زرع بذور حرب أهلية عربية ـ كردية مستقبلاً، إلّا أنّ البعض الآخر لا يزال يشكّل بواقعية تطبيقها وتنفيذها في أي حال، فإنّ التفاهمات التي جرت في الكواليس وسبقت القرار الاميركي بالانسحاب ستبقى سرية لفترة من الزمن.

والاستنتاج المنطقي يؤشّر الى أنّ روسيا لم تكن بعيدة عن التفاهم الاميركي - التركي، ذلك أنّ موسكو تراهن على الارجح على تعزيز حظوظ صيغة الاستانة، ما يكسبها نفوذاً أوسع في حال السير بها.

إيران بدورها لم تكن منزعجة بخلاف موقفها الرسمي، لأسباب أربعة هي:

الاول، أنه مقابل شرق الفرات هنالك إدلب. ويتردّد في الكواليس انّ تركيا قد تكون وافقت لروسيا على المساعدة في إنهاء معضلة ادلب من خلال فك «شيفرتها» العسكرية عبر قضم متدرّج وعلى مراحل، وهو ما تسعىى اليه طهران ودمشق على السواء.

والثاني، أنّ ايران غير قادرة على إغضاب تركيا في هذه المرحلة، حيث تشكّل أنقرة متنفّساً مهماً للاقتصاد الايراني الذي يتعرّض لأقسى أنواع العقوبات الاميركية.

والثالث، أنّ لطهران مصلحة في ضرب حلم الدولة الكردية في سوريا لإجهاض أحلام أكراد إيران.

ففي مراحل سابقة، وانسجاماً مع مبدأ التناغم بين كافة أطياف الاكراد في مختلف الدول، إنتقل أكراد من ايران الى سوريا للقتال الى جانب إخوانهم.

والسبب الرابع انه مع كل انسحاب عسكري أميركي من المنطقة، فإنّ ايران جاهزة لملء هذا الفراغ، أو على الاقل ستستفيد من تخفيف الحضور العسكري الاميركي، وبالتالي تخفيف الضغط عنها.

أمّا النظام السوري فلا تبدو حساباته بعيدة عن الحسابات الايرانية، مع إضافة أنّ الاكراد أهدروا فرصة نادرة وخَذلوا السلطة في دمشق حين كادوا ان يتوصّلوا لاتفاق على صيغة تلحَظ شِبه حكم ذاتي للاكراد، وذلك عقب إعلان ترامب نيّته الانسحاب للمرة الاولى نهاية العام الماضي.

ولكن، بعد عودة ترامب عن قراره يومها، تَنصّل الاكراد من مسوّدة الاتفاق مع الحكومة السورية وأداروا ظهرهم لها، فأدارت دمشق ظهرها لهم الآن. بل أكثر من ذلك، إنّ الدخول العسكري التركي الى الشمال السوري رفع منسوب القلق لدى الدول الخليجية التي حاربت النظام السوري بعنف، وعملت على إسقاطه.

ذلك أنّ حيازة أنقرة على نفوذ كبير خارج أرضها، وتحديداً في المكوّن السني السوري، سيفتح باب القلق من توسيع وإنعاش الاخوان المسلمين، وإعادة تصديره باتجاه المجتمعات السنية في الخليج ومصر ودول أخرى.

وهذا ما سيدفع بالدول الخليجية، وتحديداً السعودية والامارات، للقيام بانعطافة سياسية باتجاه دمشق لنَسج تحالف في وجه تركيا ومخاطر «تشريع» نفوذ الاخوان المسلمين في سوريا، طبعاً باستثناء قطر المُتحالفة مع تركيا.

وقد يكون من المُبكر الحديث عن نتائج الحملة العسكرية التركية، لكنّ الأرجحية الحسابية هي لمصلحة نجاح التمدّد العسكري التركي، إلّا إذا حصلت مفاجآت غير محسوبة.

لكن هنالك حرب العصابات التي يُتقنها الاكراد، وخصوصاً داخل مناطق جنوب تركيا، وهنالك أيضاً معارضو خطوة ترامب في الداخل الاميركي، وخصوصاً في الكونغرس.

وهنالك أيضاً حال الصدمة في اسرائيل، التي انقلب شارعها من اعتبار ترامب أحد أفضل أصدقاء إسرائيل الى وصفه بالرئيس الأسوأ لإسرائيل. فإسرائيل تكاد تخسر أحد أهم المكوّنات التي راهَنت عليها في المنطقة، ونسجت معها علاقات أمنية وثيقة.

ولقد كتبَ السفير الاسرائيلي السابق في واشنطن دان شابيرو، على «تويتر»، قائلاً إنّ الاسرائيليين يشعرون بقلق عميق من قرار ترامب بالتخلّي عن شركائنا الأكراد السوريين.

وتابع: إلّا أنّ الأمر هو أسوأ من ذلك بكثير، وهو ما يعني أيضاً انّ نتنياهو، الذي يُجاهد للبقاء في الحياة السياسية الاسرائيلية وسط أزمة خانقة، يُراكم من خسائره بعدما ربط مَساره السياسي بالرئيس الاميركي.

لكن هنالك مَن بدأ يقترح في اسرائيل أنّ التعويض الذي يمكن ان تقدّمه واشنطن لتل ابيب قبل الوصول الى الانتخابات الاميركية، هو تكريس منطقة جنوب سوريا منطقة عازلة لمصلحة اسرائيل.

باختصار، ما يحصل في شمال سوريا هو زلزال سياسي لا بد من مراقبته بعناية وحذر.