لو افترضنا أن الإيرانيين قد تمكنوا، مباشرة، أو بميليشياتهم وقنابلها المسمومة، من إسكات الجماهير، فإن الانتفاضة باقية، بالتظاهرات أو دونها، ثابتة، وساخنة، ولن تتوقف إلا بقتل آخر مواطن عراقي.
 

دون كثرة كلام، إن الانتفاضة الشعبية العراقية الأخيرة أفرزت جبهتين متقابلتين، جبهة الشعب العراقي وأصدقائه ومناصريه، وجبهة أعدائه المتحدين على الإثم والعدوان.

وكما بدا واضحا أن أعداء الشعب العراقي، وهم عصبة واحدة، حتى وهم متقاتلون في ما بينهم على المكاسب والمناصب والرواتب، قد استخدموا ويستخدمون كل ما لديهم لوأد الانتفاضة.

فمن جانبٍ يتفنّن الرؤساء والوزراء وأعضاء مجلس القضاء الأعلى والمرجعية في إطلاق ما يخطر على بال، وما لا يخطر، من الوداعة والنعومة والسلاسة والمحبة والعطف على المحتاجين والمظلومين والمحرومين، والإغداق بالوعود بحوار وطني، ومحاسبة الذين أطلقوا الرصاص الحي، ومحاسبة الفاسدين، وتحسين الخدمات، وإقامة المشاريع لإنعاش الاقتصاد ولتشغيل حملة الشهادات العاطلين عن العمل.

أما على الجانب الآخر، وفي نفس الوقت، فإن المجاهدين في الحشد الإيراني وأشقياء الحكومة نازلون إلى الشارع بكل فنون الغدر والقتل والقنص والبطش بالهراوات والعصي والسكاكين والرصاص الحي، مرفقة بتهديدات نارية لا تتوقف باعتقال المتظاهرين، وقتلهم، دفاعا عن الدولة، وعن الدستور، وعن الشرعية، كما يزعمون.

وهم يعلمون بأنهم، لو انتصر الشعب العراقي، لا مكان لهم سوى وراء القضبان أو على خشب المشانق، أو الشوارع التي كانوا يتسكعون فيها في طهران وبيروت وعمان ولندن، فقط لا غير. إنهم يقولون، بمختلف اللغات والكلمات والأساليب، إما نحن وإما الشعب العراقي المنتفض.

ولو افترضنا أن الإيرانيين قد تمكّنوا، مباشرة، أو بميليشياتهم وقنابلها المسمومة، من إسكات الجماهير، فإن الانتفاضة باقية، بالتظاهرات أو دونها، ثابتة، وساخنة، ولن تتوقف إلا بقتل آخر مواطن عراقي مسَّه أو مسَّ ولده أو أخاه أو أخته أو أحد أفراد أسرته شيءٌ من رصاص القناصة والحشد الشعبي وقوات الحكومة، ليُضاف إلى الظلم المتراكم السابق، على امتداد سنين حكم الإيرانيين ووكلائهم، وستبقى الأنظار شاخصة تترقب الفرصة الثانية للانقضاض، من جديد.

فكيف تنتهي الانتفاضة وقد بلغ عدد شهدائها مئة وثلاثين، وجرحاها ستة آلاف، ومعتقليها ومغيّبيها لا يعرف أعدادهم أحد؟

وقد أعلنها المدعو فالح الفياض، مستشار الأمن القومي ورئيس هيئة الحشد الإيراني، صريحة، فقال “إن الحكومة تدافع عن دستور بُني بالدماء والتضحيات”.

بعبارة أوضح. إن الذين كانوا جياعا وأذلة ومُعدمين وعطشى إلى مال وجاه وسلطة، ثم أعطاهم الإيرانيون أموال الشعب العراقي كلها، وجعلوا منهم رؤساء ووزراء وقادة وزعماء لن يسمحوا لأيٍ كان باسترجاع ما اكتسبوه بالغدر والغش والاختلاس وبالخيانة والعمالة إلا بالقوة، وبالقوة وحدها.

هذه الحقيقية أكدها المرشد الإيراني علي خامنئي بصراحة كاملة، بتغريدة على حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي، تويتر، بقوله “إن الأعداء يحاولون دق إسفين بين العراق وإيران”، مؤكدا أن “الأعداء يسعون للتفرقة بينهما، لكنهم عجزوا، ولن يكون لمؤامرتهم أثر”.

ثم، وبدوره، أعلن قائد الوحدات الخاصة التابعة لقوى الأمن الداخلي الإيراني، العميد حسن كرمي، عن إرسال قوة مكوّنة من 7500 عنصر إلى العراق لحماية “مراسم أربعين الحسين، وهناك 4000 عنصر احتياط”.

إن كل هذه التصريحات والوقائع التي تكشف واقع الحال في العراق، تؤكد، وبكل وضوح، أن أي حوار وطني، كالذي دعا إليه برهم صالح وعادل عبدالمهدي ومحمد الحلبوسي ليس له معنى ولا منه فائدة. لأن الأمر كلَّه، من أوله إلى آخره، لوليّ الأمر الوحيد والحقيقي الذي لا يوجد في العراق.

فالرئيس برهم صالح، في كلمة نقلها التلفزيون، يعلّق مسؤولية المذبحة التي أدارها الحشد الشعبي وقوات أمن عادل عبدالمهدي على حفنة قناصين ألقى المتظاهرون القبض على بعضهم وتبيّن أنهم إيرانيون بأوراق رسمية. ويقول إن “المتربصين والمجرمين الذين واجهوا “المتظاهرين” و”القوى الأمنية” بالرصاص الحي هم أعداء هذا الوطن، وهم أعداء الشعب”. أما الإيرانيون وجواسيسهم وميليشيات حشدهم فلا علم للرئيس بأي دور لهم في المذبحة. وليته سكت مع الساكتين.

ثم، وكما هو متوقع من حكام إقليم كردستان، وانطلاقا من مصالحهم الخاصة البعيدة عن مصالح أشقائهم عرب العراق، جددوا دعمهم لحكومة عادل عبدالمهدي “لتهدئة الأوضاع في البلاد، ونؤيد خطواته في تجاوز الأزمة الحالية”.

حتى إياد علاوي الذي دوّخ العالم بحديثه عن فساد الحكومة وفشل العملية السياسية أعلن، هو الآخر، في بيان مشترك مع مسعود بارزاني عن عدم القبول بأي تغيير في العملية السياسية خارج السياقات والأطر الدستورية والآليات الديمقراطية.

ولم ينسَ أن يتقدّم بالتعازي والمواساة إلى ذوي الضحايا المغدورين في “الأحداث” الأخيرة، ويتمنى “الشفاء العاجل للجرحى والمصابين، طالبا من الحكومة الاهتمام والرعاية التامة بالضحايا والجرحى وتعويض المتضررين”.

أما المحزن العجيب الغريب فهو أن موقف المرجعية الدينية في النجف لم يختلف عن مواقف باقي المتحدين ضد الشعب العراقي. فهي تحذر من “العنف” و”العنف المتبادل”، وتتناسى ما قام به مسلحو ميليشيات الحشد الإيراني من حملات قتل وحرق وتكسير واغتيال، وكأنها لم تعلم بأن أبناءها وأتباعها المتظاهرين لم يكونوا مسلحين إلا بالهتاف والأعلام العراقية وزغاريد النساء، لا يريدون سوى استرجاع حقوقهم ومحاسبة الفاسدين والفاشلين الذين كان لها اليد الطولى في تسليطهم على العباد والبلاد.

يقول جلال الصغير، رئيس المجلس الإسلامي، “إننا سوف ننزل إلى الشارع، بكل قواتنا، لمقاتلة النواصب الوهابية والبعثيين الذين يتظاهرون ضد دولة الحسين”.

وكأنه يقول إن شيعة بغداد والحلة والنجف وكربلاء والناصرية والديوانية والسماوة والكوت والبصرة ليسوا هم الطائفة التي يحكم باسمها وبأصوات أبنائها.

هذه هي المسألة إذن. إنهم، جميعَهم، إيرانيين وعراقيين موكَّلين من إيران، جاهزون لقتال الشعب العراقي، بكل ما لديهم من قوة، دفاعا عن وجودهم، وبلا حدود.

إنهم يزرعون النهاية لظلمهم، ويمنحون الشعب العراقي القوة والجبروت لمقاتلتهم حتى النصر الأخير. ولن يصح سوى الصحيح.