على رغم التعقيدات الاقليمية الكبيرة والملفات الصعبة والخطيرة التي تهدد ركائز الدولة اللبنانية، إلّا انّ ما يشبه السكون يسود المواقف السياسية، فيما المحاور السياسية تعيش حال استرخاء. فهل هذا الهدوء مرشّح لأن يطول ويتعزّز أم أنه سكون ما قبل العاصفة؟
 

في الواقع إنّ تفاعل الساحة اللبنانية مع التطورات الاقليمية لم يتبدل يوماً، لذلك فإنّ مختلف الاطراف السياسية ترصد التبدلات السريعة الحاصلة على ساحات الشرق الاوسط لتنفيذ تَموضعها الجديد والمسار السياسي الذي ستتخذه.

في نيويورك طرحت كلمة الرئيس اللبناني الكثير من التساؤلات لدى الجهات الدولية، عن الخطوة التالية التي ينوي الرئيس عون اتخاذها تحت عنوان معالجة موضوع النازحين السوريين.

كان الرأي الغالب أنّ كلمة عون من على منبر الأمم المتحدة هَدفت للتحضير لزيارة دمشق، خصوصاً وسط استمرار الحصار الاميركي له، والذي تجلّى بعدم حصول لقاء بينه وبين مسؤول أميركي رفيع للسنة الثالثة على التوالي.

في الواقع، إنّ الرئيس اللبناني ما زال في طور تقييم هذه الخطوة وإشباعها درساً من كل النواحي، وهو لم يتخذ قراره النهائي بعد، فلا شك في أنّ الضغط الهائل الذي يفرضه ملف النازحين السوريين على الواقع اللبناني الصعب، والغموض المُقلق إزاء الصورة المستقبلية ومصيرهم النهائي، وإفشال المبادرات الدولية حيال هذا الملف، والأبرز في ذلك المبادرة الروسية، كلّ ذلك يدفع للذهاب بعيداً خِشية المقايضات السياسية مستقبلاً، بما فيها زيارة دمشق. لكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التعقيدات الاقليمية والحسابات السياسية وتوازناتها الجديدة، والضغوط الدولية التي يمكن حصولها. كلّ ذلك يدخل في حسابات التقييم الجارية قبل اتخاذ الموقف النهائي. فالأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان تهدّد ثبات استقراره، والبوادر بدأت بالظهور مع دعوات القطاعات المختلفة للاضراب بالترافق مع قلق بالغ حيال المستقبل القريب.

ربما لذلك تحركت الولايات المتحدة الاميركية خلف الكواليس، وأبدَت لعدد من الدول الخليجية موافقتها على وضع ودائع مالية في لبنان. وهذا ما سيسمح لدولة الامارات بوضع وديعة مالية لاحقاً، بعد ان رفعت الحظر عن مواطنيها للسفر الى لبنان، وستليها دول خليجية أخرى حيث تردّد أنّ البحرين ستضع بدورها وديعة رمزية.

وبخلاف ما قيل عن وجود «مؤامرة» خارجية حيال الواقع المالي في لبنان، فإنّ واشنطن تدرك جيداً أنّ الاهتراء الذي يتآكل الدولة اللبنانية مُعزّزاً بفساد جعلَ التصنيف الدولي للبنان في المرتبة 138، بات يضع الكيان اللبناني على مشارف فوضى عارمة، وهو ما سيؤدي في النهاية الى سقوط كامل هيكل الدولة اللبنانية في قبضة «حزب الله».

الواضح أنّ الامارات، التي بادرَت في هذا الاتجاه، تتحَضّر أيضاً لتشجيع رجال أعمالها للاستثمار في لبنان. ذلك أنه في يوم قد لا يكون بعيداً جداً، سيشكّل لبنان ساحة الانطلاق للشركات الراغبة في إعادة إعمار سوريا.

ولكن هذه المرونة المالية الاميركية حيال لبنان لا تعني بالضرورة مرونة سياسة، بل على العكس فالأوساط الديبلوماسية الاميركية لم تخفِ استياءها حيال التصرّف الحاصل مع الاعلام، وهي تُبدي قلقها الفعلي إزاء التهديدات التي تَطال الحريات بشكل عام. كما تُبدي أوساط ديبلوماسية غربية استياءها من تكرار الممارسات عينها التي حصلت إبّان السيطرة السورية على لبنان، ومنها ما هو حاصل اليوم على صعيد حرية الاعلام والتعبير، وما حصل قبل مدة خلال حادثة قبرشمون والضغوط التي حصلت على القضاء.

الواضح أنّ واشنطن تفضّل التماهي أكثر مع الرئيس سعد الحريري من أركان السلطة في لبنان، لذلك جاءت البشارة الاماراتية من خلال زيارة الرئيس سعد الحريري وليس غيره. وكان نافراً، على سبيل المثال، خلو زيارات وزير الخارجية جبران باسيل الولايات المتحدة الاميركية من أي لقاءات مع مسؤولين اميركيين، وبخلاف ما صَرّح به فإنّه طلب بطريقة غير مباشرة تأمين لقاءات له خلال زيارته الاخيرة الطويلة الى الولايات المتحدة، وجاء من يطلب وساطة توم باراك، صديق ترامب وشريكه، خلال زيارته لبنان الصيف الماضي.

وعلى العكس من ذلك، فإنه إضافة الى عدم تأمين اي موعد له منذ وصول دونالد ترامب الى البيت الابيض، فإنّ مؤتمر الطاقة الاغترابية الذي انعقد في واشنطن جاء كارثياً، على رغم التحضيرات الدقيقة التي أوليَت له. فالمشاركون تناقَص عددهم تدريجاً، وجرى تخفيض عدد كراسي الحضور مما فوق الألف الى ما دون الثلاثماية كرسي. ومن ثم سجّل اعتذار مفاجئ عن عدم مشاركة أعضاء في الكونغرس الاميركي من اصول لبنانية، إضافة الى سياسيين أميركيين من أصول لبنانية ايضاً، رغم أنّ عدداً من هؤلاء كان مدرجاً على لائحة الادلاء بكلمات.

إعتبر البعض أنّ ثمّة كلمة سر جرى إمرارها من السلطات الاميركية، لكنّ البعض الآخر أقرّ بوجود كلمة سر، ولكن على مستوى الذين تَمّت دعوتهم الى المشاركة انسجاماً مع المناخ العام. أيّاً يكن الجواب الصحيح، إلّا انه لا يبدّل في معنى الرسالة الموجّهة الى باسيل: «نحن لا نتفق معك في الاسلوب التي تتّبعه في مَسارك السياسي».

بعد أسبوع، سيصل السفير دايفيد شينكر الى لبنان لفتح ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية. والجديد ليس فقط أنّ شينكر حل مكان ديفيد ساترفيلد، بل إظهار واشنطن اهتمامها الفائق بالغاز الذي جرى اكتشافه في البحر ما بين اليونان وقبرص ولبنان واسرائيل.

ولا شك في أنّ روسيا ليست مرتاحة الى الاندفاعة الاميركية بُغية السيطرة على الغاز البحري، والأهم أنّ الصراع لا يزال على أشُدّه بين واشنطن وطهران، فيما لا أحد يجادل في التأثير الكبير لـ«حزب الله» داخل السلطة اللبنانية، في وقتٍ أظهرت الاحداث أنّ القدرة العسكرية لـ«حزب الله» ما زالت قوية وكبيرة.

ويتردد أنّ الهجوم الذي طالَ منشآت «أرامكو»، حملَ في طيّاته رسالة إنذار لإسرائيل. فالعملية التي حصلت انتزعَت إعجاب المحلّلين العسكريين الاميركيين، كما الاسرائيليين. أولاً، لناحية المسار الطويل. وثانياً، لقدرة اختراق الدفاعات السعودية المتطورة بما في ذلك نظام «باتريوت». وثالثاً، لدقة انتقاء الأهداف وتدميرها، والأهم أنّ واشنطن كما تل أبيب، قرأت في ذلك رسالة إيرانية حول قدرتها الصاروخية والاستخباراتية، وانّ ما حصل مع «أرامكو» قابل للحصول مرة ثانية مع هدف آخر.