سيكون صعبا على إيران التخلّي عن العراق. لذلك ستقمع الثورة الشعبية، مثلما وقفت في وجه أي محاولة لإعادة بناء الجيش العراقي الذي بات يمثل في هذه الأيّام خشبة خلاص للأكثرية العراقية.
 

إذا كانت تجربة العراق في السنوات الـ16 الأخيرة تعني شيئا، فهي تعني أن الميليشيات المذهبية لا يمكن أن تبني دولة. حيث تحلّ الميليشيات، يحلّ الخراب. الأمثلة كثيرة. من بين الأمثلة لبنان وسوريا واليمن. لا مستقبل للبنان في غياب الدولة وجيشها الذي يحتكر السلاح. لن تقوم قيامة لسوريا بعدما صارت الميليشيات صاحبة القرار في هذه المنطقة أو تلك. أمّا اليمن، الذي تشظّى، فسيغرق أكثر فأكثر في حال البؤس التي يعاني منها بعدما قبلت “الشرعية” تسليم صنعاء إلى ميليشيا الحوثي (أنصار الله) قبل خمس سنوات.

ما سقط بعد أيام قليلة من الاضطرابات في بغداد ومناطق مختلفة هو نظام حاولت إيران إقامته في العراق بهدف واحد وحيد هو منع قيام دولة عراقية مستقلّة في يوم من الأيّام. مطلوب إيرانيا ألا تقوم للعراق قيامة. هذا كلّ ما في الأمر، لا أكثر ولا أقلّ.

 

كان الهدف الإيراني، ولا يزال واضحا كلّ الوضوح. إنّه يتمثل في قيام دولة عراقية تدور في الفلك الإيراني، دولة أسيرة ما تقرّره ميليشيات تابعة لطهران سبق لها أن حاربت إلى جانب “الحرس الثوري” في المواجهة مع الجيش العراقي بين العامين 1980 و1988.

من هذا المنطلق، يمكن توقع إلقاء إيران بثقلها كي تمنع سقوط النظام القائم الذي أخذت على عاتقها تشييده والذي تحوّل “الحشد الشعبي”، الذي هو كناية عن تجمّع للميليشيات المذهبية، إلى عموده الفقري. سيسقط مزيد من القتلى في العراق بسبب الإصرار الإيراني على التمسّك بالنظام الحالي الذي تمثله حكومة عادل عبدالمهدي المنبثقة عن انتخابات أيّار – مايو 2018.

 

ستحاول إيران بما تمتلكه من أدوات عراقية تكرار تجربة 2009 في طهران والمدن الإيرانية الأخرى، حيث قمعت ثورة شعبية حقيقية سمّيت “الثورة الخضراء” من أجل أن يستمرّ نظام الملالي الذي أوصل الشعب الإيراني إلى ما وصل إليه، أي إلى أن يصبح ما يزيد على نصف هذا الشعب يعيش تحت خطّ الفقر… وفي ظلّ عقوبات دولية، خصوصا أميركية.

لأنّ إيران تنوي قمع ثورة الشعب العراقي، بدأ مسؤولوها والناطقون باسمها في العراق ولبنان يتحدّثون عن “مؤامرة” أميركية وإسرائيلية على العراق. الواقع أن هناك مؤامرة إيرانية على العراق تولت الولايات المتحدة تنفيذها في العام 2003. لم يعد سرّا أن إيران كانت الشريك الفعلي في الحرب الأميركية على العراق التي استهدفت إسقاط نظام صدّام حسين، وهو نظام يصعب الدفاع عنه نظرا إلى أنّه ارتكب أخطاء كثيرة على الصعيدين الداخلي والإقليمي.

لكنّ عملية التخلّص من النظام في العراق انتهت بمأساة. يشكّل النظام القائم حاليا خير تعبير عن هذه المأساة التي حرمت العراقيين من ثروات بلدهم التي ذهبت إلى جيوب أشخاص معروفين في الداخل العراقي، وإلى “الحرس الثوري” الذي يستفيد إلى أبعد حدود من نهب العراق.

سيكون صعبا على إيران التخلّي عن العراق. لذلك ستقمع الثورة الشعبية، مثلما وقفت في وجه أي محاولة لإعادة بناء الجيش العراقي الذي بات يمثل في هذه الأيّام خشبة خلاص للأكثرية العراقية، بما في ذلك لشيعة العراق من العرب. هؤلاء أثبتوا مرّة أخرى رفضهم للاستعمار الإيراني وتمسّكهم بالروح الوطنية العراقية. هؤلاء كانوا وراء صمود العراق في الحرب الطويلة التي خاضها مع إيران. كان الرهان الإيراني على أن المناطق ذات الأكثرية الشيعية، خصوصا في الجنوب، لن تقاوم، بل سترحّب بالإيرانيين بمجرد اقترابهم من البصرة أو مدن وبلدات جنوبية أخرى. لم يحدث شيء من ذلك. بقي العراقي عراقيا والإيراني إيرانيا، بقي الفُرس فُرسا والعرب عربا… حتّى العام 2003.

 

وفّرت الحرب الأميركية على العراق فرصة كي تنتقم إيران. لا تزال فكرة الانتقام من العراق التي بدأت باغتيال كلّ طيّار عراقي شارك في قصف الأراضي الإيرانية في حرب السنوات الثماني مستمرّة وإنْ بشكل آخر. هناك تبرير إيراني لنهب ثروات العراق. تبرّر إيران عملية النهب هذه بتعويضات مستحقّة بسبب الحرب مع العراق. ليس ما يشير إلى إشعار آخر أن إيران قررت التخلي عن نهجها في العراق. وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير ذلك الإصرار على قمع الثورة الشعبية العراقية على النظام القائم، وهي ثورة يسعى أكثر من زعيم عراقي، بما في ذلك مقتدى الصدر، إلى خطفها.

تمكنت إيران من قمع الثورة الشعبية العراقية أم لم تتمكّن من ذلك. الأكيد أن الوضع العراقي لن يرتاح قريبا. هناك كلّ المقومات التي تسمح باستمرار الانتفاضة الشعبية على الرغم من وسائل القمع المختلفة التي ستستخدم لإسكاتها واستيعابها.

 

هناك قبل كلّ شيء نظام جديد في العراق لم يعد يستطيع إعادة إنتاج نفسه، لا لشيء سوى لأنّ إيران تتحكّم به عبر ميليشياتها. أنتج هذا النظام أكثرية برلمانية في الماضي. لكنّ إيران رفضت نتائج الانتخابات وفرضت في العام 2010 أن يكون نوري المالكي رئيسا للوزراء وليس إياد علّاوي. حصل ذلك بالاتفاق مع الإدارة الأميركية وقتذاك، إدارة باراك أوباما، التي كان همّها محصورا باسترضاء طهران بغية التوصل إلى اتفاق في شأن الملف النووي الإيراني. وهذا ما تحقّق صيف العام 2015.

 

تكرّر المشهد في 2018. كان مطلوبا إيرانيا منع حيدر العبادي من العودة إلى موقع رئيس الوزراء بعدما أظهر نوعا من الاستقلالية عن إيران. أتت إيران بعادل عبدالمهدي الذي تبيّن أن هامش التحرّر من الإملاءات الإيرانية محدود جدا لديه. ليس فشل عادل عبدالمهدي في التعاطي مع التطورّات العراقية الأخيرة بمثابة فشل لشخص معيّن، بمقدار ما أنّه فشل إيراني في فرض نظام الميليشيات على العراق. يستطيع نظام الميليشيات تدمير البلد، لكنّه لا يمكن أن يضع حجرا على حجر. السؤال في العراق الآن، ماذا بعد انهيار النظام الذي سدّ كل أبواب الأمل في وجه العراقيين؟

 

الأكيد أن الجواب ليس في وعود عادل عبدالمهدي التي يفهم منها أنّه يريد إنشاء نظام اقتصادي ريْعي يقوم على توزيع الأموال على العائلات الفقيرة. هناك بكل بساطة نظام انهار ودولة لم تعد فيها مؤسسات بعدما اخترق الإيرانيون كلّ الوزارات، بما في ذلك وزارات سيادية وأخرى تهتمّ بالتعليم والبرامج التعليمية. هل يمكن إعادة ترميم العراق ومؤسساته في ظلّ الإصرار الإيراني على رفض قيام أي مؤسسة عراقية، كالجيش الوطني مثلا، يمكن أن تشكل رمزا لوجود البلد كدولة مستقلة فعلا، وليس تحت رحمة الميليشيات المذهبية؟ الجواب أن مثل هذه المهمّة تبدو مستحيلة أكثر من أيّ شيء آخر.