بعيداً عن التموضع السياسي وبأمانة بحثية وعلمية يجب النظر الى المسؤوليات في صناعة الأزمة التي تعصف بلبنان مالياً واقتصادياً، وتوزيع أعبائها وتبعاتها بحدود ما يقوله العلم عن المسؤوليات، وما يردده البعض عن مسؤولية عهد الرئيس ميشال عون عن الأزمة، يستدعي الصدق في المقاربة والجرأة في الكشف عن مكامن الخلل، وهو رهان سياسي اقتصادي بدأ مطلع التسعينات من القرن الماضي، كان إبعاد العماد ميشال عون احد ركائزه، على قاعدة الاقتناع بأن التفاهمات الإقليمية الدولية وتوفير الأمن بقوة يستعان بها من الخارج، هي الجيش السوري، وتشكيل الدولة بمؤسسات يكفي أن تحظى بالثقة الخارجية وبعض الإبهار في الداخل بقوة توفير الأمن والمال، وإعادة تشكيل وعي اللبنانيين والسياسة والاقتصاد من خلال التوسع في الإنفاق المالي، عناصر كافية لبناء لبنان جديد، لا حاجة فيه لتحمّل متاعب السعي لوفاق وطني جامع يستنهض اللبنانيين حول دولة تلم شملهم بعد الحرب، وتبني مؤسسات دولتهم بشراكاتهم وإمكاناتهم، وتستثمرعلى مقدرات نمو اقتصادهم ومشاركة المقيمين والمغتربين منهم بقوة الأمل الجديد للدولة الجديدة، خصوصاً لا حاجة الى شراكات متّعبة مع قادة من عيار العماد عون شديدة التطلب والتدقيق والتمحيص والتوقف عند مدى توافر الشروط الوطنية لمشروع خلاص وطني وتفاصيله.

الحقيقة التي لا بد من تثبيتها هي أن صيغة الدولة التي ولدت في التسيعنات وحملت مشروعاً اقتصادياً ومالياً، لم تكن فقط قائمة بغياب العماد عون، الذي يرمز إليه بالعهد اليوم، بل مشروطة بتغييبه وإبعاده، وتغييب الرؤيا المخالفة لتلك التي سادت، فصيغة الدولة التي حكمت لبنان حتى عام 2005 كانت مشروعاً سياسياً اقتصادياً مالياً، يستغني عن مفهوم بناء دولة واقتصاد شرط قيامهما توافق وطني كبير واستنهاض طاقات اللبنانيين، ويكتفي بالتوافقات الدولية والإقليمية والقدرة على جذب الأموال وجعل لبنان ساحة للعمليات المالية والعقارية والخدماتية، حيث لا إنتاج يهم، ولا مؤسسات تحاسب ولا دولة تراقب، ولا مواطنين يشاركون، وبالتالي دولة الانتصار على خيار العماد عون ومشروعه ومفهومه للدولة والاقتصاد، هي التي امتلكت كل أسباب فرصتها لإثبات أهليتها السياسية والاقتصادية، ومن شروط هذه الفرصة تولي الرعاية الدولية والإقليمية إبعاد العماد عون ورؤيته ومشروعه، وتولي هذه الرعاية الحلول مكان الوفاق الوطني والشراكة المجتمعية في بناء الدولة، ومكان الدور الطبيعي للبنانيين في بناء الاقتصاد.

ما جرى بعد خمسة عشر عاماً، أن هذا المشروع المنتصر مطلع التسعينات، وقد امتلك كل الفرص للنجاح أصيب بفشل كبير، وثبت انه يفتقد الأرضية الصلبة للنجاح، فقد بني فعلياً على مستنقع من الأوحال، فسقط التوافق الإقليمي الدولي، وظهرت استحالة استمرار الدولة بدون العودة إلى مشروع وفاق وطني يجمع اللبنانيين، وعودة العماد عون وشراكة «التيار الوطني الحر» منذ ذلك الحين وتتويجاً بوصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية، ليست إلّا رمزية هزيمة وفشل الرهان الذي حكم لبنان منذ التسيعنات، واعتراف ضمني بالعودة للمشروع الذي يرمز إليه العماد عون في مفهوم بناء الدولة والوفاق والاقتصاد، فهل يحق لشركاء هذا المشروع الفاشل، التحدث عن العماد عون كمسؤول عن فشلهم،أو شريك في ما تولّد عن مشروعهم، والمستنقع الموحل كان مالياً واقتصادياً بمثل ما كان سياسياً، فكما سقط الرهان على كفاية التوافق الدولي والإقليمي لتهميش الداخل السياسي في مشروع بناء الدولة، سقط الرهان على كفاية الإنفاق المالي الخارجي، لتهميش الاقتصاد الوطني وقطاعاته المنتجة.

منذ تاريخ الاضطراب الكبير الذي دخله لبنان مع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تعيشه المنطقة من سقوط متلاحق لمظلات التوافق الدولي والإقليمي، والاقتصاد اللبناني لا يجني إلّا عائدات فشل المشروع الاقتصادي المالي الذي شكّل رهان مشروع لبنان التسعينات، فيغرق لبنان أكثر في الديون والفساد والإنفاق غير المجدي والتضخم العشوائي للتوظيف وترهل الدولة وتراجع الاقتصاد، لكن الحلول تحتاج إلى شرطين لا يملك التيار الوطني الحر تحقيقهما بمفرده، رغم استلام العماد عون سدة الرئاسة، الأول هو تحقيق وفاق وطني جامع حول مشروع بناء الدولة يستند إلى استنهاض مكوّناتها حول عقد وطني واجتماعي ثابت ومنصف، والثاني رؤية اقتصادية تحظى بالإجماع تستطيع إطلاق الاقتصاد والنمو، وتعيد هيكلة مؤسسات الدولة وحاجاتها للتوظيف والإنفاق بمعايير اقتصادية، وتستعيد الموارد المسلوبة للدولة إلى كنفها بنظام ضرائبي عادل، وهذان الشرطان السياسي والاقتصادي، يشكلان هاجس الرئيس منذ توليه الرئاسة، وهو يمتلك لكل من العنوانين رؤية تتضمن التفاصيل لما هو مطلوب، لكن التوافق الصعب والشائك، يبقى هدفاً منشوداً وشرطاً لازماً، لكنه لم يتحقق بعد بالتأكيد، كما امتصاص واحتواء الأضرار الناجمة عن عبث الرهان السابق السياسي والاقتصادي الذي دمر الكثير في النسيج الاجتماعي والمفاهيم وأساليب التعامل مع المال العام والخدمة العامة والعلاقات السياسية، كما دمر واستباح مالية الدولة ومواردها وشكل إدارتها، ومسيرة الإصلاح لا تقل تعقيداً عن متاعب البناء السياسي.

الحقيقة، أنّ المطلوب من رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، أن يقودا الإنقاذ من الكارثة التي صنعت بيد الرهان الذي قام على استهدافه، وبالشراكة مع الذين قادوا هذا الرهان، وهو لم يتردد في القيام بواجبه الوطني بتلبية نداء وطنه لتحمل المسؤولية، لأنّ هذا هو مفهومه للوطنية الحقيقية وللشراكة وللوفاق، وهو يعلم أنّ لا حلول سحرية وفورية في مشروع نهوض، عنوانه التأسيس الثابت لتفاهمات وتوافقات وطنية سياسية واقتصادية ومالية لا تزال تعاني المرارة عند كل نقطة وفاصلة، لكن بدونها لا تقوم دولة ولا يقوم اقتصاد، وهذا واجب لا مفرّ منه يقبله الرئيس بفرح وليس على مضض، أما أن يصل الأمر بالبعض حدّ تقديمه مسؤولاً عما فعل سواه بوعي وعن سابق تصور وتصميم، يوم توهموا أنهم يستعيضون عن الشراكة والوفاق معه برهانهم، ويوم اعتبروا ذلك طريقاً أقصر نحو النهوض بالدولة والاقتصاد، فبنوا لنا مهلكة ومنهبة ودولة على رمال، وبدلاً من أن يعتذروا من العماد عون لما فعلت أيديهم ويعودوا إليه طالبين غفرانه وسعيه الإنقاذي، يلقون عليه أوزار أفعالهم، فذلك أكثر من افتراء وتزوير، بل هو قمة الوقاحة.