كل قادة الميليشيات الصفوية في العراق يراهنون على الفساد والنهب، لأنهما ضمانتهم الوحيدة. وهم يتناوبون الكراسي في ما بينهم فقط من أجل إطالة الأمد وتوسيع نطاق الفرصة لمن كسب ولم يكتف.
 

شيئان فقط أحبطا مشروع داعش. فشل “سلطة المثال”، وعدم التقدم إلى بغداد. المعروف أن تنظيم داعش اجتاح ثلث العراق، ابتداء من “انتفاضة” مسلحة في الموصل تمكن خلالها من الاستيلاء على معسكرات الجيش وكل موارد السلطات المحلية، بما فيها البنوك. فأصبح من القوة والثراء ما مكنه من التقدم إلى محافظات أخرى، وأن يرسخ وجوده فيها كسلطة بديلة لسلطة الفساد والميليشيات الصفوية التي لا تزال تحكم بغداد.

 

بدأ تنظيم داعش سلطته بأعمال قتل عاصفة لكل من ارتبط أو شك في ارتباطه بالسلطة الميليشيوية الحاكمة. لم يتورع عن قتل الآلاف، وربما عشرات الآلاف. هكذا خبط عشواء، من أجل أن يثير الرعب في نفوس مسلحي تلك الميليشيات. ونجح فعلا، حتى ساد الاعتقاد بأنه يستطيع أن يستولي على بغداد في غضون أيام معدودات من القتال. ولكنه توقف على التخوم، ليهنأ فسادُه الخاص بما كسب.

 

استنفِرت طهران، كما استنفرت المرجعيات الميليشيوية لمواجهة قوةٍ من نوع مختلف. ولم تكن تلك القوة مجرّد “مجموعات مسلحة” لا تخشى الموت أو تهديه لكل من يواجهها. لقد كانت بالأحرى قوة مستمدة من انحطاط، أو قل سفالة المشروع نفسه الذي تقوده طهران. فهو ما وفر، لعامة العراقيين، مزيج الرهبة والصمت والرضا عما تفعله هذه المجموعات.

ولكن الانحطاط هو الذي انتصر في النهاية. ليس لأنه استجمع قواه، ولا لأنه استجلب قوى خارجية لمحاربة داعش، بل لأن هذا الأخير فشل في أن يقدم “سلطة مثال” قابلة أو جديرة بالحياة.

الإسلام قوة معنوية ودافعة عظمى. ولكن مثلما يمكن قراءته كقوة تسامح واعتدال وتعددية، فإنه يمكن قراءته كقوة تعصب وانغلاق وقسوة.

 

ويجدر القول إن كلا هاتين القراءتين مجرد تحوير أيديولوجي للإسلام.

الإسلام كرؤية، أقرب إلى فلسفة وجود وإيمان، لا تصلح لأن تؤخذ بأي معيار أيديولوجي، كائنا ما كان. لا ذلك المعيار “التسامحي” المفتعل، ولا ذلك المعيار المتعصب المفتعل أيضا.

 

وأقول “مفتعل” على الوجهين لأن الكثير منا يضيف إلى تلك الرؤية ما يُضفي عليها لونا طاغيا. وإذ لا يعجز عن العثور على أدلة تدعم تصوره، فإن الدافع الأيديولوجي سرعان ما يتحول إلى نوع من “قوة إنشاء” تبني شيئا جديدا، يبتعد عن قيم ومعايير فلسفة الوجود والإيمان التي يمثلها الإسلام. حتى لتبدو وكأنها حائط مجاور نبنيه، ليتكئ على حائط آخر، فنظن أن الثاني هو الإسلام وأن الأول نوع من دليل عليه! بينما يجب أن يكون هو الدال.

وكمثل لوحة متعددة الألوان وكانت لكل منها غاية مختلفة أو مستقلة لتكشف عن أبعاد الرؤية العامة، القيمية والأخلاقية والاجتماعية والإيمانية، فإن طغيان لون ما، لا يفعل سوى أن يفسد اللوحة.

 

وها نحن نقف أمام لوحة أفسدت على كل وجه، وأنشئت على حائطها جدرانٌ وجدرانٌ.

مليشيويو المشروع الصفوي، دواعش ليس بأقل من دواعش المشروع الآخر. وهم قتلة ومجرمون ومفسدون على حدّ سواء. وعجزوا، كمثل تنظيم داعش نفسه، في أن يقيموا “سلطة مثال” جديرة بالحياة.

القتل، في حد ذاته، مشكلة طبعا. ولكن في مواجهة ميليشيات تحمي سلطة انحطاط أو فشل، فإن المشكلة لا تعود إلى القتل نفسه. وإنما إلى ما تريده منه.

الانتفاضة التي تعمّ العراق الآن، سوف تُسحق على نحو ما تمّ سحق كل الانتفاضات والاحتجاجات والتظاهرات السابقة. ولسوف تُواجه بالسلاح.

 

ميليشيات الولي الفقيه في إيران سحقت شعبا بأسره بالسلاح. ونقلت التجربة إلى سوريا لتسحق شعبا آخر حتى ولكأن البلاد أصيبت بعشر قنابل نووية لفرط ما لحقها من دمار. والشيء نفسه تكرر في اليمن.

هذه الميليشيات، بحكم طبيعتها الداعشية بالذات، لن تتردد في فعل أي شيء لسحق أي تمرد ضدها. وستظل تنهب وتفسد على المنوال نفسه. لأن ذلك جزء من طبيعتها أيضا. ولأن مخاوفها الطبيعية، وهي ترى أرضا تميد تحتها، تدفعها إلى الإسراع والزيادة في أعمال التخريب والقتل والنهب. ذلك أنه شريان الحياة الوحيد الذي يبقى لها إذا ما انقلبت عليها الأحوال.

 

كل قادة الميليشيات الصفوية في العراق يراهنون على الفساد والنهب، لأنهما ضمانتهم الوحيدة. وهم يتناوبون الكراسي في ما بينهم فقط من أجل إطالة الأمد وتوسيع نطاق الفرصة لمن كسب ولم يكتف، ولمن لم يكسب بعد.

وهم إذ ينقلون ما ينهبونه إلى الخارج، وإلى إيران بالذات، خوفا وتقية، فهم لا يدركون أن حاميهم حراميهم أيضا، لأنه هو نفسه يتصرف بالطريقة ذاتها.

هذه الميليشيات لن تُغلب إلا بشيئين: السلاح، وسلطة مثال قابلة للحياة.

 

الإيرانيون هُزموا في بلدهم، لأنهم لا يملكون السلاح. والسوريون هزموا أيضا لأنهم، حتى وإن ملكوا السلاح، فقد أحالوه إلى “سلطة مثال” متساوية في السوء. واليمنيون لا يزالون يتنازعون، سلاحا بسلاح، من دون أي فكرة عما يجب أن تكون عليه سلطة المثال الواجب الأخذ بها.

 

العراقيون يمكنهم أن يفعلوا شيئا آخر، ربما. السلاح متوفر والحمد لله. بقي الشيء الآخر. ولكن لا أدري إن كان انحطاطهم الثقافي الراهن يسمح لهم بالعثور عليه.