إعتاد العهد مباشرة أو مداورة، من خلال وَليّه الوزير جبران باسيل، خوض المواجهات بالجملة والمفرّق مع مختلف القوى السياسية باستثناء «حزب الله» الذي يرتبط معه بتحالف استراتيجي لم يتغيّر او يتبدّل، وإن كان يختلف معه على طريقة مقاربة هذا الملف الداخلي أو ذاك.
 

ما لم يكن يتوقّعه العهد هو أن يصبح في مواجهة مباشرة مع الناس. إذ وعلى الحجم الصغير لتظاهرة الأحد الفائت، فإنّ الشعارات التي أطلقتها أقلقَته كثيراً، وجعلته يلمس فعلياً أنّ الناس يحمِّلونه هو، لا الحكومة، مسؤولية الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية.

 

وعندما أسقط الناس حكومة الرئيس عمر كرامي بـ«ثورة الدواليب» في أيار 1992، حَمّلوه وحكومته مسؤولية ارتفاع سعر الدولار وتَردّي الوضع المعيشي، ولم يحمّلوها لرئيس الجمهورية الياس الهراوي الذي كان في بداية عهده، وما كانت صورة الرئاسة ودورها المتقدِّم تَبدّدا في أذهانهم بعد.

 

وتحميل الناس العهد نفسه مسؤولية الأزمة، يَردّ سياسيون محايدون سببه، الى أنّ هذا العهد حاول اختصار كل شيء بنفسه، والتأكيد انّ مركز القرار هو في القصر الجمهوري لا في الحكومة مجتمعة، فضلاً عن أنّ امتلاكه الثلث الوزاري المعطِّل وكتلة نيابية فَضفاضة وَضعاه في موقف المعرقِل للمشاريع الاقتصادية والقوانين المرعية.

 

وقد لمسَ العهد أيضاً انّ الناس يحمِّلونه هو، وليس باسيل حصراً، المسؤولية عن تردّي الأوضاع، إذ انه كان قد اعتاد على تحميل باسيل المسؤوليات وتحييد نفسه عنها، فإذ به يتفاجَأ هذه المرة بأنّ الناس صَبّوا جام غضبهم عليه مباشرة وليس على باسيل. كذلك، لمسَ أنّ المواجهة مع الناس تختلف عن المواجهة مع القوى السياسية، وذلك بعدما كان يتلطّى تاريخياً خلف الناس ليُواجه تلك القوى السياسية على اختلافها ويحمّلها المسؤوليات.

 

ولم يكن العهد يتوقع يوماً أن تصبح مواجهته مع الرأي العام، خصوصاً أنه بَنى كل شعبيّته على نظرية الدفاع عنه وعن مصالحه في مواجهة «الميليشيات وحيتان المال». ولكن في سياق دفاعه عن نفسه، إصطدمَ مجدداً بالقوى السياسية التي كان قد سعى إلى إعادة مَد الجسور معها، لأنه وجد أن لا خيار أمامه، إذ بين أن يُبقي التهمة على نفسه، وبين أن يحمِّلها للآخرين، ذهب في اتجاه الخيار الثاني مُكرّراً نظريته انّ «ثلاثية بري والحريري وجنبلاط أوصَلت البلاد، بفِعل ممارستها منذ العام 1990، إلى ما وصلت إليه».

 

ولعل ما أدركه العهد هو انّ انطباع الناس لا يتبدّد بموقف دفاعي من هنا أو من هناك، وهذا الانطباع قد أصبح راسخاً، وهو أنه يتحمّل مسؤولية ما آلت إليه الأمور، وانّ هذه المسؤولية لا تقلّ عن مسؤولية بعض العهود التي سبقته، بل انها مُضاعفة، لأنه أُعطِي فرصة حقيقية للإنقاذ، ولكنه بَدّدها سريعاً بإعطاء الأولوية لتأمين خلافة الوزير جبران باسيل في سدّة رئاسة الجمهورية، بدلاً من معالجة الخلل البنيوي في الإدارة والاقتصاد وفي مالية الدولة. فأولوية خلافة باسيل استدعَت كل التوتير المُتنقّل والمواجهات المفتوحة وغياب الخطط الإصلاحية، ما ارتَدّ سلباً على الاستقرار السياسي والاقتصادي وهَدّد بالانهيار.

 

وفي رأي فريق من السياسيين أنّ العهد أُعطِي ما لم يُمنَح لغيره من دعم القوى التمثيلية الحقيقية وتشكيل أرضية لبناء الدولة المعاصرة، ولكنه فَوّتَ على نفسه وعلى البلاد فرصة الإنقاذ، لأنه اختار المواجهة مع هذه القوى تحت عنوان: «إمّا التسليم برئاسة باسيل أو المواجهة المفتوحة»، فكان ما كان من أزمات لم تنته فصولاً.

على أنّ المُستجدّ في المشهد السياسي هو أنّ العهد أصبح في مواجهة مباشرة مع الناس، وخطورة هذا الأمر بالنسبة إليه ليست مصير البلد والناس بطبيعة الحال، إنما انعدام فرَص خلافة باسيل الرئاسية. إذ كيف يمكن للناس، الذين فقدوا الثقة بالأصيل، أن يقبلوا بانتخاب باسيل، أي الوكيل؟

 

ويبدو أنّ المواجهة بين العهد والناس مرشّحة للاتّساع لا الانحسار، لأنه ليس في وارد الاتِّعاظ والتغيير، بدليل رَمي المسؤوليات وتوزيعها وتعميمها بدلاً من الانكباب على معالجة الأزمة الاقتصادية بخطوات إصلاحية حقيقية. وما يؤكّد عدم رغبة العهد بالاتِّعاظ تشخيصه لِرَد فِعل الناس بأنه «مؤامرة حيكَت بالتعاون بين الخارج والداخل»، وأنه يملك من الاثباتات ما يكفي لفَضح المتآمرين. كما أنّ ما يؤكد أيضاً عدم رغبة العهد بالاتّعاظ إعطاؤه الأولوية لمواجهة الإعلام والناس بدلاً من مواجهة الأزمة.

 

ويبدو، في رأي هؤلاء السياسيين، أنّ ما حصل في 29 أيلول من حراك شعبي مرشّح للتكرار، ولن تنفع المساعي والمناشدات لإيقافه. وفي مُستهلّ جلسة مجلس الوزراء، قال رئيس الجمهورية ميشال عون: «إنّ المسؤولية هي مسؤولية السلطة التنفيذية مُجتمعة»، وفي ذلك تراجع خطوة إلى الوراء في نظرية «العهد القوي» الذي لا يتحمّل المواجهة المباشرة مع الناس.

 

على أنّ ما يزيد في أزمة العهد أنه غير مقبول أميركياً ولا سعودياً. لأنه، في موازاة أزمته الداخلية، يعيش أزمة خارجية قوامها مقاطعة أميركية وسعودية تَظَهّرت في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، وكذلك خلال زيارة باسيل لواشنطن، والذي لم يترك وساطة إلّا واستخدمها للاجتماع بديبلوماسي من الدرجة الخامسة، ولكن بلا جدوى، ما يعني أنّ ورقته مَقطوعة شعبياً وسياسياً في الداخل اللبناني، ومقطوعة لدى عواصم القرار الغربية والعربية.

 

ولعلّ ما «زاد في الطين بلّة» إلغاء محاضرة باسيل في المقر المركزي لتيار «المستقبل» في محلّة القنطاري، وفي ذلك دلالة عميقة الى رفض الشارع السنّي، أو «المستقبلي» على الأقل، لباسيل، والى أنّ العلاقة «مِن فوق» مع الحريري تختلف عن العلاقة «مِن تحت» مع «المستقبل».

 

وليس تفصيلاً أن يصبح باسيل مرفوضاً سنياً ودرزياً وشيعياً باستثناء قيادة «حزب الله» لا بيئته، ومسيحياً باستثناء بيئته الحزبية.

وليس تفصيلاً أيضاً أن يفضِّل الحريري الإحراج مع باسيل بإلغاء اللقاء على الإحراج مع بيئته، التي ترفض باسيل وكل من يمتّ إليه بصِلة. وكذلك ليس تفصيلاً أن يترأس النائب شامل روكز قداس 13 تشرين الأول للمعارضة العونية، وأن يَنشأ الخلاف بين باسيل وبين معظم الشخصيات التي تملك حيثيّات في تكتل «لبنان القوي» و«التيار الوطني الحر».

 

وليس تفصيلاً أيضاً وأيضاً أن يصبح العهد في مواجهة مع الناس في الشارع، ومع القوى السياسية، ومع واشنطن والرياض، على خلفية سياسية، ومع باريس على خلفية إصلاحية، وفي ظل عقوبات تتوسّع وكلام عن اقترابها من شخصيات عونية.

البعض يقول: الإنقاذ الاقتصادي ممكن إذا طُبِّقت الإصلاحات، ولكن هل إنقاذ العهد ما زال مُمكناً؟