نعم، لقد غدر الغادرون بشباب وطننا النجباء الشرفاء الميامين، ولكن غدرهم أيقظ الملايين بعد الملايين من العراقيين، وسوف ينتفضون مجددا. وسوف ينتصرون.
 

من غرائب المصادفات أن يحل يومُ الثالث من أكتوبر على العراق، وهو يوم الذكرى السابعة والثمانين لاستقلاله وخلاصه من الانتداب البريطاني ودخوله عصبة الأمم في العام 1932، وهو بلا استقلال، وتحت الوصاية والانتداب والاحتلال، من جديد.

ففي الثاني من أكتوبر، وفي الثالث منه، أمطرت الدنيا على الرئيس العراقي برهم صالح برقيات من كثيرين من الرؤساء والملوك العرب والأجانب، تهنئه بيوم الاستقلال الوطني، وتدعو له، شخصيا، بطول العمر، ولشعبه بالأمن والأمان، وبالهناء والبناء والاسترخاء.

 

وهذه واحدة منها:

“بعث الملك سلمان بن عبدالعزيز برقية تهنئة للرئيس العراقي برهم صالح بمناسبة ذكرى استقلال بلاده، باسمه وباسم شعب وحكومة المملكة العربية السعودية، معبرا فيها عن أصدق التهاني وأطيب التمنيات بالصحة والسعادة لفخامته، ومتمنيا لحكومة وشعب العراق الشقيق مزيدًا من الأمن والاستقرار”.

 

وتذكيرًا لمن نسي أو تناسى، نعود إلى أصل الحكاية. فقد عقدت الحكومة العراقية، وكانت تحت الانتداب البريطاني، مع بريطانيا في الثلاثين من يونيو عام 1930 معاهدةً تمهد لإنهاء الانتداب البريطاني على العراق، ودخوله إلى عصبة الأمم. ولكن المعارضة الشعبية الواسعة للمعاهدة المعروفة باسم معاهدة بورتسموث، والتي هتفت فيها الجماهير “نوري السعيد القندرة، صالح جبر قيطانها”، جعلت مجلس عصبة الأمم يقرر في الرابع من ديسمبر عام 1931 تشكيل لجنة خاصة لدراسة طلب الحكومة العراقية الانضمام إليها كدولة مستقلة. وفي الثالث من أكتوبر عام 1932 وافقت عصبة الأمم على الطلب، ليبدأ العراق عهدًا جديدا في تاريخه الحديث.

 

وكان منتظرا، في يوم الاستقلال المجيد، هذا العام، أن يستفيق العراقيون، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، ليحتفلوا بهذا اليوم السعيد العزيز، فتقامُ الأفراح والاحتفالات العسكرية والمدنية في كل مدينة وقرية، وتُسيَّر المواكب الشعبية والحكومية، وتصدح الموسيقى، وتتعالى الأناشيد الحماسية، وتُعطل المدارس ودوائر الحكومة ليتمكن جميع المواطنين، جنوبيين ووسطيين وشماليين، من المشاركة في أعراس هذا اليوم الكبير.

 

وكان مؤملا، بعد سبعة وثمانين عاما من الحرية والاستقلال والإعمار والبناء والعدل والإنصاف والمساواة، والإنفاق المجزي من ثروات الوطن الغزيرة على التعليم والصحة والزراعة والصناعة والتجارة، والعناية بالموهوبين والمبدعين، ورعاية العلماء والخبراء والمخترعين، أن نرى فخامة الرئيس برهم صالح، من على شاشات التلفزيون، وهو بالبزة الرئاسية المزركشة التي يرتديها الرؤساء في الأيام الوطنية السعيدة، محاطا بسابقيْه الرئيسيْن الباقييْن على قيد الحياة، غازي الياور وفؤاد معصوم، ثم رئيس وزرائه الحالي عادل عبدالمهدي، ومعه رؤساء الوزارات السابقون، إياد علاوي وإبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي، ثم كبار رجالات الدولة العسكريين والمدنيين، هادي العامري وقيس الخزعلي وأبومهدي المهندس وفالح الفياض ومقتدى الصدر وعمار الحكيم، وهو يستقبل كبار مهنئيه بهذا اليوم العزيز من السفراء العرب والأجانب، وشيوخ العشائر ورجال الدين. وفي ساحات القصر الجمهوري تصدح الموسيقى العسكرية، وتتعالى زغاريد الأمهات وهتاف الجماهير الفرحين بيوم الاستقلال والنصر المبين.

 

ولكن، في ذكرى يوم الاستقلال، الثالث من أكتوبر من هذا العام الحزين، أفاق العالم في يوم الثلاثاء الأسود، ويوم الأربعاء الأكثر سوادا، وعلى أصوات المدافع والبنادق وهي تلعلع في ساحات بغداد والناصرية والنجف والديوانية وكربلاء التي هتفت “طهران بره بره، كربلاء حرة حرة”، وعلى هدير سيارات القمع الوطني، وعلى الحرائق ودخان القنابل المسمومة، وعلى العويل والبكاء والصراخ، وعلى طوفان الجموع الثائرة الغاضبة المطالبة بنصيبها من الحياة الحرة الكريمة التي قال رئيس الجمهورية، برهم صالح، للأمم المتحدة إنها قد تحققت في عهده وعهد أصحابه المجاهدين، عادل عبدالمهدي، وكاكه فؤاد حسين، وقبله كاكه هوشيار زيباري، والراحل العم جلال الطالباني، وكاكه مسعود، وسليم الجبوري ومحمد الحلبوسي وأسامة النجيفي وخميس الخنجر، وميليشياتهم وأقاربهم وأتباعهم وأصحابهم أجمعين.

 

ففي يوم الاستقلال من هذا العام سال دم غزير من خيرة شباب الوطن، وسقط جرحى كثيرون، وانهمر في بغداد والناصرية والبصرة والسماوة والنجف وكربلاء رصاص حي أطلقه مسلحون من الحكومة ومن الحشد الشعبي، ومن جواسيس قاسم سليماني، بزعم أن بين هؤلاء المنتفضين مدسوسين، مخربين، مأجورين لأميركا ولقوى الاستكبار العالمي الأخرى للقضاء على دولة الإمام الحسين، وجمهورية وريثه الولي الفقيه.

 

والمحزن والغريب أن التي انتفضت هي فقط جماهير المحافظات الجنوبية، أما عرب المحافظات السنية، وأما عراقيو المحافظات الكردية الثلاث، فقد اكتفوا بالفرجة على شاشات التلفزيون وموقع فيسبوك، وكأن الذين تساقطوا ويتساقطون برصاص الغدر والخيانة ليسوا أشقاءهم، وكأنهم لم يثوروا من أجل وطن حرٍ سعيد رحيم رؤوف بأبنائه أجمعين، بلا تمييز ولا تهميش ولا استثناء. وكأن الذين سرقوا ونهبوا وظلموا وزوروا وتآمروا وخانوا لم يصيبوا أحداً منهم بأذى ذات يوم.

 

وأغلب الظن الذي يشبه اليقين أن شعبنا العراقي الشجاع الصبور سوف يفعل ما فعلته شعوبٌ أخرى قبلنا كانت أحوالُها أقلَّ سوءًا من أحوالنا، لكنها لم تصبر طويلا على الظلم والظالمين، وتظاهرت، سلما، في البداية، وحين لم تُنصف ولم تُحترم مطالبها، أطلقت ثورتَها عاصفةً شاملةً لم تهدأ حتى اقتلعت الفساد من جذوره، ورمت بحكامها الفاسدين في صناديق القمامة، برغم كل ما كان لديهم من عساكر ومدافع وقلاع.

 

نعم، لقد غدر الغادرون بشباب وطننا النجباء الشرفاء الميامين، ولكن غدرهم أيقظ الملايين بعد الملايين من العراقيين، وسوف ينتفضون مجددا. وسوف ينتصرون.