عندما يسقط الحريريون رئيسهم في دائرة الإدانة المسبقة
 
لا أتبنى مقال "نيويورك تايمز" ولا أنفيه ، فهذا الأمر يعود للرئيس سعد الحريري نفسه ، وهو مدعوٌ لأن يتخذ الإجراءات القانونية اللازمة لحماية سمعته ومكانته ، التي تضررت كثيراً بسبب هذا المقال ، لأسباب كثيرة ، معنوية ومادية.
فمعنوياً ، سعد الحريري هو "بيّ السنـّة" ولا يليق بمن نصّب نفسه في هذه المكانة أن يسكت عن خبر منحه عارضة أزياء ما يقارب 16 مليون دولار.
وسياسياً ، سعد الحريري ، هو رئيس حكومة لبنان ، وممثـّل أهل السنة في الحكم ، ورئيس السلطة التنفيذية ، ومن غير المناسب أن يُنشر عنه مثل هذا الكلام ولا يعالجه منذ أيامه الأولى ويتخذ الخطوات القانونية المطلوبة.
ومادياً: تضرّر سعد الحريري ، لأن المقال يُظهر حجم تبذير كبير ، ولو كان المبلغ ضئيلاً قياساً لعموم حجم الثروة ، إلا أنه مؤثر في عيون آلاف الموظفين الذين صرفهم ولا تزال حقوقهم ضائعة..
 
إلا أن أسوأ ما في ردود الفعل والتبرير ، قول أنصار الحريري ، إنه حرٌ في أن يصرف ماله الخاص كيفما شاء ، وأنه حرٌ في ممارساته الشخصية.
هؤلاء الأنصار الشرسون والمدافعون بدون وعيٍ لما يقولون ، يسيئون للحريري أيما إساءة ، للأسباب الآتية:
ــ أنهم يؤكدون مقال صحيفة "نيويورك تايمز" بأن الحريري دفع للعارضة قرابة 16 مليون دولار ، ويسلّمون بهذه الرواية ، تعصباً وحميةً جاهلية ، وحتى قبل أن يصدر عن الحريري أي ردٍ أو موقف.
ــ أن هؤلاء الأنصار يؤكدون على أنفسهم أنهم قابلون بمناصرة الخطأ والباطل ، لأنه صادرٌ عن زعيمهم ، وفي هذا السلوك خروج عن إطار الأخلاق والقيم ، ومبدأ النصيحة ، والتذكير بأن الحديث أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، له إستكمال ، بأن تردعه عن ظلمه ، ليفيق من غفلته وليرجع عن إرتكاب الأخطاء.
أما المسألة الأخطر ، فهي أن هؤلاء الأنصار الأشداء ، يورّطون رئيسهم في مسألة شديدة الخطورة ، إذا إعتبروا أن ما جاء في الصحيفة الأميركية صحيحاً ، وأنهم يدافعون عن ما يسمونه "حقه في التصرف بماله" ، كيفما شاء وكيفما أراد ، حتى لو كان على عارضة أزياء ، وعلى العلاقات الجنسية ، كما وصلت السفاهة ببعض المناصرين..
هل يحق للإنسان التصرف بماله الخاص كما يشاء بلا حساب؟ 
هل هذا الكلام ينطبق على المعايير الدينية والقانونية والأخلاقية؟
وماذا يمكن تسمية مثل هذا التصرف؟
يمكن إختصار الشطط في الإسراف وصرف المال في مواضع تخالف الدين والقانون ، بأنه السَفـَهُ الموجب للحجر.
 
في اللغة والشريعة والدين: 
 
أصل السفه في اللغة: نقص وخفة العقل والطيش والحركة.
قال صاحب تفسير المنار: والسَّفَهُ وَالسَّفَاهَةُ : الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ وَالْفِكْرِ أَوِ الْأَخْلَاقِ . يُقَالُ : سَفَّهَ حِلْمَهُ وَرَأْيَهُ وَنَفْسَهُ . وَاضْطِرَابُ الْحِلْمِ - الْعَقْلِ - وَالرَّأْيِ : جَهْلٌ وَطَيْشٌ ، وَاضْطِرَابُ الْأَخْلَاقِ : فَسَادٌ فِيهَا لِعَدَمِ رُسُوخِ مَلَكَةِ الْفَضِيلَةِ. اهـ
وأما في الشريعة: فقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف السفيه، وخلاصة ما ذكروه: أن السفيه هو من يسرف في إنفاق ماله، ويضيعه على خلاف مقتضى العقل أو الشرع فيما لا مصلحة له فيه، وباعثه خفة تعتري الإنسان من الفرح والغضب ، فتحمله على الإنفاق من غير ملاحظة النفع الدنيوي والديني. 
 
متى يزول الحجر عن السفيه؟
 
إذا رشد السفيه، بأن صار يحسن التصرف في المال فلا يُغبن، ولا يصرفه في حرام، أو في غير منفعة، زال الحجر عنه، ورُدت إليه أمواله.
وإن استمر السفه إستمر الحجر عليه ؛ رعاية لمصلحته، ودفعاً للضرر عنه.
قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [5]} [النساء:5].
 
في القانون
 
جاء في المادة ٩٤٦ من مجلة الأحكام العدلية:
"السفيه هو الذي يصرف ماله في غير موضعه ويبذّر في مصارفه ويضيع أمواله ويتلفها بالإسراف، والذين لا يزالون يغفلون في أخذهم وإعطائهم ولم يعرفوا طريق تجارتهم وتمتّعهم بسبب بلاهتهم وخلوّ قلوبهم يعدّون أيضاً من السفهاء"
لهذا كله ، تصبح نظرية الحرية في صرف المال الشخصي غير صالحة للتغطية على إشكالية مقال "نيويورك تايمز".
المجدي في هذا كله ، هو الردّ القانوني ، فالولايات المتحدة الأميركية دولة قانون ، والصحيفة عنوانـُها واضح ، والحق في حفظ السمعة متوافر.
أما التبريرات الصاخبة والمنفلتة ، فهي لا تزيد الطين إلا بِلّة..
 
 
أين يذهب الحريريون؟!
 
ما هذا الضياع والتيه والتخبط الذي يضرب سفينة الرئيس سعد الحريري؟ ما هذا الإبتلاء بأنصارٍ يشجعون إرتكاب الموبقات ويستبعدون القيم الإجتماعية والدينية؟
ماذا بعد كلّ هذا التراكم التراجعي المتقهقر؟
إذا كان هؤلاء الأنصار لا يقيمون وزناً للدين ، ولا للقانون ، ولا للقيم الأخلاقية ، فلماذا إذاً نحتكم للدولة ولماذا العقد الإجتماعي ، ولماذا الحكومة ، ولماذا رئاسة الحكومة
لا يبشّر بالخير أبداً ما وصل إليه حال الرئيس الحريري ، ومن المؤسف أن يتساقط هذا البناء بهذا الشكل المخيف ، بسبب الإصرار على المضيّ في الخيارات الخاطئة التي لن توصل سوى إلى الإنهيار.