ما لم تلتقطه الفصائل الفلسطينية، هو أن العرب المعنيين بالوضع الفلسطيني منهمكون في قضاياهم الخاصة، وفي مقدمتهم مصر المنشغلة في هذه المرحلة الخطيرة بأوضاعها الداخلية، حيث إن «الإرهاب الإخواني» يواصل ضرباته إنْ في سيناء وإنْ في القاهرة، وإن في «الجغرافيا» المصرية كلها، وهذا بالإضافة إلى «اللغم» الليبي المتفجر، وإضافة إلى أن هناك «ألغاماً» كثيرة قابلة للانفجار في أي لحظة في بعض دول الجوار القريبة والبعيدة.


ولعل ما هو مؤكد هو أنه باستثناء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية، فإن التنظيمات التي انتدبت نفسها للتوسط بين حركة «فتح» وحركة «حماس» بمعظمها مجرد عناوين وهمية، وأنه إذا كان لبعضها وجود متواضع إنْ في سوريا وإنْ في لبنان كـ«الجبهة الشعبية - القيادة العامة» بقيادة أحمد جبريل، فإنه لا وجود لها وعلى الإطلاق لا في قطاع غزة ولا في الضفة الغربية.


لا شك في أن هناك وجوداً لحركة «الجهاد الإسلامي» متدثراً بعباءة حركة «حماس» التي باتت تسيطر على قطاع غزة بعد انقلابها الدموي على منظمة التحرير والسلطة الوطنية وحركة «فتح» في عام 2007، وهذا ينطبق على «حزب الشعب» ولا ينطبق إطلاقاً لا على «الصاعقة» ولا على جبهة التحرير العربية، وذلك في حين أنه قد ينطبق وعلى نحو محدود على ما يسمى «فدا»، وأيضاً على ما يسمى «المبادرة الوطنية» التي لا علاقة لها بتاريخ العمل الفدائي الفلسطيني؛ على اعتبار أنها من إنتاج تعثر العملية السلمية المستندة إلى اتفاقيات «أوسلو» المعروفة.


لقد كانت هناك محاولات توحيدية سابقة كان آخرها في عام 2017، لكن كل تلك المحاولات كانت مجرد قفزات في الهواء؛ فالوضع الفلسطيني، طالما أن بعض الفصائل والتنظيمات كانت وبعضها لا يزال مجرد امتداد لبعض الأنظمة العربية كالنظام السوري وسابقاً النظام العراقي ونظام معمر القذافي، لم يكن موحداً إلا في فترات عابرة ومحددة، من بينها خلال حصار بيروت في عام 1982، ومن بينها أيضاً خلال انعقاد مؤتمر الجزائر الشهير في عام 1988 الذي اعتبر تمهيداً مطلوباً للانخراط في العملية السلمية وفقاً لاتفاقيات «أوسلو» التي على أساسها أصبحت هناك هذه «السلطة الوطنية».


كانت حركة «فتح»، حتى قبل ظهور كل هذه الفصائل الفعلية والوهمية بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967، السبّاقة إلى إعلان: «الكفاح المسلح» في الفاتح من عام 1965، وحيث كان القرار في هذا المجال قد اتخذه المؤسسون الطلائعيون على شاطئ «الصليبخات» في الكويت، وكان البلاغ رقم «1» بأول عملية فدائية التي هي عملية: «سد عيلبون» قد كتب في بيروت وأذيع في دمشق في مطلع عام 1965، ويومها لم يكن هناك أي تنظيم فدائي فلسطيني آخر إلا هذه الحركة التي أعطيت ذراعها العسكرية اسماً عسكرياً هو: «العاصفة» الذي لا يزال يحمله شعارها الوطني حتى الآن.


لقد كان الذين أسسوا حركة «فتح» على صلة بالجزائر التي كانت قد اجترحت استقلالها في عام 1962، وكان المفترض أن تقتصر الثورة الفلسطينية على هذه «الحركة» وحدها؛ وذلك على اعتبار أن الثوار الجزائريين الذين كانوا قد بدأوا ثورتهم ضد الاستعمار الفرنسي في عام 1954 قد حصروا تنظيمهم بـ«جبهة التحرير الوطني الجزائرية»، وحالوا دون ظهور أي تنظيم آخر خوفاً من اختراقهم بفصائل وتنظيمات كثيرة ومتعددة، من بينها ما يتبع للمحتلين الفرنسيين، ومن بينها ما يتبع لجهات معادية حتى وإنْ كانت عربية.


وكذلك، فإن المؤكد أن حركة «فتح»، عندما قامت بعملية «عيلبون» هذه التي قادها ياسر عرفات (أبو عمار) نفسه، والتي صدر بلاغها العسكري باسم «العاصفة»، كانت مصممة، اقتداءً بالثورة الجزائرية المظفرة، على ألا يكون في ساحة العمل الفدائي الفلسطيني غيرها، لكن ما جرى لاحقاً، بعد هزيمة يونيو عام 1967 واحتلال إسرائيل الضفة الغربية حتى نهر الأردن ولهضبة الجولان السورية حتى مشارف دمشق واحتلال سيناء كلها حتى قناة السويس، ما لبثت أن تفجرت الساحة الفلسطينية بتنظيمات متعددة، أولها: «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ومن بينها تنظيمان «بعثيان» أولهما كان ولا يزال تابعاً لـ«بعث سوريا» هو: طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)، والآخر كان تابعاً لـ«بعث العراق» هو جبهة التحرير العربية، وهذا بالإضافة إلى كل هذه الفصائل التي ظهرت لاحقاً، ويومها كان هناك ما يوصف بأنه: «المرحلة الأردنية».


والمهم أن «الإخوان المسلمين» بقوا خارج هذه الدائرة كلها، وهذا مع أن بعض الفلسطينيين منهم قد التحقوا ولفترة عابرة، كانت في نهايات عام 1968، بحركة «فتح» وأقيمت لهم قاعدة عسكرية في منطقة إربد في الأردن أُطلق عليها اسم «قاعدة الشيوخ»، والمعروف أن هؤلاء لم يدخلوا ساحة العمل الفلسطيني إلا في عام 1987، حيث كان وجودهم الفعلي بقيادة خالد مشعل في عمان قبل إخراجهم منها في نهايات تسعينات القرن الماضي إلى الدوحة التي أصبحت مركزاً قيادياً لهم وللتنظيم العالمي «الإخواني» منذ ذلك الحين وحتى الآن.


ثم، ومن المعروف أن أبو عمار بذل جهوداً مضنية لاستيعاب: «حركة المقاومة الإسلامية» في الإطار الرسمي الفلسطيني الذي هو منظمة التحرير الفلسطينية على اعتبار أن انخراط الفلسطينيين في عملية السلام على أساس اتفاقيات «أوسلو» يستدعي وحدة تنظيمية فلسطينية، لكنه لم يفلح في هذا، وثبت أن لهذه الحركة «موالها الخاص» الذي كان قد تبلور في انقلاب عام 2007 وسيطرتها على قطاع غزة، حيث فشلت كل محاولات «مصالحتها» وتوحيد الساحة الفلسطينية من أجل الانخراط في عملية السلام كجهة واحدة.


وهكذا، ورغم وجود كل هذه الفصائل الفعلية والوهمية؛ فإن المعادلة الفلسطينية القائمة الآن هي أن هناك حركة «فتح» صاحبة منظمة التحرير والسلطة الوطنية، وهناك حركة «حماس» التي كانت قد انتزعت قطاع غزة بانقلاب عسكري دموي ككل الانقلابات العسكرية العربية، لكن الواضح والمؤكد أنها لن تصبح قطباً فلسطينياً ثانياً، وأنها ليست منظمة فلسطينية، وذلك على أساس أنها قد بدأت تشكيلاً «إخوانياً» يتبع للتنظيم العالمي لـ«الإخوان» المسلمين الملحق بهذا التحالف الذي تقوده إيران والذي يضم «قطر» و«الحوثيين» ونظام بشار الأسد و«حزب الله» وفوق هؤلاء جميعاً تركيا «الإردوغانية»!


وهذا يعني أنه على السلطة الوطنية ومعها حركة «فتح» ألا تشغل نفسها بهذه المسألة إطلاقاً؛ فـ«حماس» في حقيقة الأمر إيرانية و«إخوانية» أكثر كثيراً مما هي فلسطينية؛ ولذلك فإنه إذا كان لا بد من لملمة الوضع الفلسطيني فإنه يجب التركيز على الجبهتين الشعبية والديمقراطية وعلى «المبادرة» وعلى التشكيلات النقابية صاحبة الأدوار الطليعية في هذا المجال... لقد وعد الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في اجتماعها الأخير، أنه سيدعو إلى انتخابات برلمانية قريبة سيحدد موعدها في فترة لاحقة، وحقيقة أن الأكثر جدوى وأهمية هو أن يتم التعاطي مع الحالة الفلسطينية في هذا الوقت وفي هذه الظروف الصعبة على أساس أن حركة «حماس» خارج هذه الدائرة نهائياً، وأنها في «معسكر» آخر هو «المعسكر الإيراني» الذي يضم حتى الآن ما يعتبر «هلالاً طائفياً»، يبدأ أحد طرفيه باليمن وينتهي طرفه الآخر بـ«اللاذقية» السورية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والذي عملياً لا تعترض مساره الجغرافي والسياسي إلا المملكة العربية السعودية!