إنقسم المشهد الاقتصادي في الأيام القليلة الماضية بين مؤامرتين، واحدة تتهم النظام السوري وأتباعه بشفط الدولارات من السوق اللبناني وشَحنها الى سوريا، وأخرى تتهم الولايات المتحدة الأميركية و»عوكر» بتخريب الاقتصاد اللبناني بسلاح العقوبات.
 

بَدت القوى السياسية في لبنان مُندمجة ومنسجمة، وربما مرتاحة نفسياً لوجود مؤامرتين افتراضيتين على الاقتصاد. ومن البديهي أنّ أنصار السيادة والاستقلال بَدوا مقتنعين بوجود «مؤامرة سورية»، وأنصار محور المقاومة تحمّسوا للتصدّي لـ«المؤامرة الأميركية».

والقاسم المشترك بين الطرفين، هو تَبرئة الجاني الحقيقي الذي يقف وراء الاوضاع المزرية التي وصل إليها البلد. فهل يريد مروّجو المؤامرات أن يصدّق الناس مثلاً، انّ المتآمرين من الخارج منعوا السلطة السياسية من إصلاح القطاع الكهربائي الذي ظل يَستنزف الخزينة، ولا يزال، منذ أكثر من 25 سنة، وأدّى خلال هذه السنوات الى ابتلاع بين 35 و40 مليار دولار تقريباً، فيما يحتاج القطاع ووَقف الهدر فيه الى ملياري دولار، وحوالى سنتين فقط من الأعمال لإصلاحه بالكامل؟

هل يريد داعمو نظريات المؤامرة أن نصدّق انّ المتآمرين هم الذين أغمضوا عيونهم عن الحقائق، وصمّوا آذانهم عن التحذيرات، وأغفلوا الحقائق والأرقام، وأقرّوا سلسلة الرتب والرواتب بكلفة تقديرية قاربت الـ800 مليون دولار سنوياً، وأقرّوا معها سلة ضريبية ادّعوا انها كافية لتغطية كلفة السلسلة، ليتبيّن لاحقاً انّ كلفة السلسلة قارَبت الملياري دولار، وهي قابلة للنمو أكثر في السنوات المقبلة، وانّ حجم الايرادات التي كان يُفترض أن تغطيها يكاد لا يُذكر، مع الاشارة الى انّ الاجراءات الضريبية ساهمت في عرقلة النمو الاقتصادي أكثر ممّا هو مُعرقل؟

هل المؤامرة الخارجية هي التي أوحَت لأصحاب العقول المعطّلة والضمير الغائب أن يُقرّوا قانوناً لوَقف التوظيف في القطاع العام المُنتفِخ في العام 2017، ومن ثم خَرقه بالتحايُل وإدخال آلاف الموظفين الجدد الى الدولة في موسم انتخابي كان يحتاج فيه أمراء السياسة الى الأصوات بأيّ ثمن؟

أم أنّ الخارج المُتآمِر هو من عَطّل أجهزة السكانر بشكل دائم في المرفأ، وجعل التهريب مستمراً منذ سنوات. وصارت قصة السكانر المعطّل مزحة سَمجة يسمعها المواطن كلما عَلت أصوات، وأشارت أصابع الى فضيحة استمرار التهريب عبر كل المعابر؟

وصولاً طبعاً الى سؤال «تحصيل الحاصل»: هل الخارج هو مَن أوعَز بنهب المال العام، وتحويل المؤسسات العامة الى محميّات خاصة يتم نهبها بكل ما للكلمة من معنى ومن قبل معظم القوى السياسية، لئلّا نُعَمّم؟

في كل الاحوال، ولأنّ دحض نظرية المؤامرات وتسليط الضوء على الجاني الحقيقي، وهو هنا السلطة السياسية بلا منازع، لا يُنقذ البلد حالياً من المرحلة المتقدمة الذي بلغها في مسار الانهيار، ولأنّ وضع الناس مثل مساهمين في شركة انتخَبوا مجلس ادارة نَهب الشركة وأهملها وأوصَلها الى حافة الافلاس، ومن ثمّ طالَبهم برَفع مساهماتهم المالية لمنع الافلاس، لا بد من القبول بالتضحيات، ولو أنها ظالمة في حق الضحية، ومريحة بعض الشيء للجلّاد.


وبالتالي، لا بد من صدمة إيجابية على مستوى متقدّم تشكل قاعدة يُبنى عليها للبدء في الانقاذ. ومثل هذه الصدمة لا يمكن أن تقوم على الاجراءات التي تجري مناقشتها اليوم، والتي ستوجِع الناس من دون أن تُنقذ البلد (بنزين وTVA وتبغ...)، وهذه قمة المأساة. من يريد الانقاذ فعلاً، يستطيع ان يدعو الى جلسة حكومية طارئة ويتخذ 3 قرارات تكفي لإصدار موازنة صفر عجز:

اولاً - تعديل تعرفة الكهرباء فوراً، وبالنسبة الملائمة لبيع الطاقة بسعر الانتاج على الأقل، ووقف دعم هذا القطاع من الخزينة فوراً.
ثانياً - تجميد سلسلة الرتب والرواتب لسنة قابلة للتجديد، وفق الظروف والمعطيات.

ثالثاً - فسخ عقود آلاف الموظفين الذين تمّ إدخالهم الى القطاع العام خلافاً للقانون منذ العام 2017.

هذه القرارات الثلاثة توفّر على الخزينة حوالى 4,5 مليارات دولار تقريباً، ويمكن إصدار موازنة 2020 بصفر عجز. هذه هي القرارات التي يمكن ان تنطبق عليها صفة الطوارئ. أمّا ما تبحثه السلطة اليوم، وجَوجلة الافكار، وإضاعة المزيد من الوقت، فلن تجدي.

ومن يعتقد انّ خفض 1 في المئة سنوياً من العجز لمدة 5 سنوات، كما تعهدت الدولة في «سيدر»، يكفي، فربما عليه أن يُعيد النظر في حساباته.

هذا التعهّد كان قبل عامين، وحالياً لم يعد يكفي. اليوم، وصل سعر الفوائد الى 15 في المئة. وهذا يعني انه لو طَبّقنا نظرية خفض العجز 1 في المئة، أي بمعدل 600 مليون دولار سنوياً، فهذا لن يغيّر المشهد. واذا احتسَبنا ما سيحصل في السنوات 2020 و2021 و2022، وهي السنوات التي ذكرتها مقررات اجتماع بعبدا، ضمن الخطة المالية لـ3 سنوات، سنكتشف انّ الخفض الاجمالي للعجز سيكون 3,6 مليارات دولار في 3 سنوات.

في المقابل، سيزيد الدين العام، وعلى أساس سعر الفائدة الحالية، حوالى 12 مليار دولار، بما يجعل حجم الدين العام حوالى الـ100 مليار دولار. وسيصبح معدل الفوائد المدفوعة على مجمل الدين العام حوالى 9 في المئة، بما يعني انّ لبنان سيدفع في العام 2022 حوالى 9 مليارات دولار فوائد سنوية.

فهل تستطيع دولة تبلغ إيراداتها حوالى 12,5 مليار دولار، تدفع 80 في المئة منها فوائد، أن تعيش وتستمر؟ احسِبوها صَح، واتخذوا القرار.