رحل الدكتور والحكيم شيراك كما كان يسميه الراحل ياسر عرفات، وكان دائم الاتصال به طلباً للمشورة، شيراك الذي نهر رجال الشرطة الإسرائيلية المرافقين له ووبَّخهم في زيارة القدس، حين حاولوا منعه من الحديث مع الفلسطينيين.


شيراك الرجل الذي قال لأميركا «لا» في حرب العراق بلسان وزير خارجيته: «من دولة عجوز ومن قارة عجوز أقول لكم لا للحرب على العراق»، شيراك الذي حاول تخفيف ديون القارة الأفريقية عبر عدة مبادرات، جعلت منه صديق أفريقيا.


كان شخصية استثنائية فرنسية من جميع الأوجه السياسية والاجتماعية بل والثقافية، فالرئيس المثقف والرئيس الشاعر، فالثقافة كانت على رأس اهتماماته في شبابه عكس رجال عصره، حيث كان يخفي كتب الشعر والأدب خلف مجلات بلاي بوي، وليس العكس كما كان يفعل أقرانه، كما قالت زوجته، التي كانت هي الأخرى زوجة غير تقليدية، بل تركت بصمة في حياته وفي سياسة فرنسا، وإن كانت تسببت لشيراك في إدانته في قضية الوظائف الوهمية التي أدين فيها وحكم بسنتين سجناً مع وقف التنفيذ لكبر سنه، وإن كانت تلك القضية لم تؤثر في شعبية الرئيس الراحل.


شيراك الذي أطفئت أنوار برج إيفل، ونكست أعلام الجمهورية الفرنسية لرحيله، هو صديق العرب، لدرجة وصفه البعض بشيراك العرب، فهو الذي رفض حرب بوش على العراق في 2003. وثبتت صدق رؤيته في الانفلات الأمني وكارثة ما حدث بعدها في المنطقة، فشيراك هو الرئيس الفرنسي الأوحد بعد ديغول، الذي يقف نداً للأميركيين، بل وهدَّد في أكثر من مرة باستخدام الفيتو ضد قرارات تناصرها الولايات المتحدة.


لقد كان أول رئيس يعترف ويعتذر عن الحرب النازية، فشخصية شيراك كانت تتوازن بين شخصية الرئيس وهيبته وتواضعه وقربه من الناس، إذ كان صاحب شخصية تكتسح الشعبية المجتمعية كالبلدوزر، كما كان يصفه أغلب من تواصل معه أو جمعه اللقاء به.


لقد كان شعبياً مع الشعب، خصوصاً سكان دائرته الانتخابية التي أعطته صوتها نائباً لأكثر من 18 عاماً، حيث كان يحرص على الحديث والتواصل والاستماع إليهم؛ كبيرهم وصغيرهم، صفات يصعب أن تجدها عند سياسيي فرنسا اليوم، بل وحتى الأمس، منذ زمن غطرسة ماري أنطوانيت إلى زمن غطرسة وصلف ساركوزي، الذي وإن كان يردد أن لشيراك فضلاً كبيراً عليه، فإن نيكولا ساركوزي قد طعن معلمه وصاحب الفضل عليه.


رحيل شيراك جمع الفرنسيين أصدقاء وخصوماً على مديح الرجل، فبرحيله أصبح جزءاً من تاريخ فرنسا، وخسر الفرنسيون رجل دولة وأوروبياً عظيماً، شيراك «رجل فرنسا الأعظم» كما وصفه الحريري الابن، ليعبر عن افتقاده الأخ الأكبر له صديق لبنان، وصديق والده المغدور رفيق الحريري.


كلمات مديح رددها كثير من ساسة العالم لوصف جاك شيراك، الذي لم يكن قديساً، بل كان ثعلباً في السياسة ولم يخلُ ملفه من الاتهام بل الإدانة بالفساد، وإن كان في حجم مرتبات وظائف حكومية لا تتجاوز المليون يورو، مقارنة بمليارات الفساد اليوم في بلدان الخريف العربي، ومنها ليبيا التي ينهبها الجميع بالمليارات.


شيراك الذي يصفه بعض العرب بـ«شيراك العرب» كان يرى الجزائر «فرنسية» في صغره، وسعى للعمل التطوعي في المستعمرة الفرنسية، ليؤكد عقيدته «بفرنسية» الجزائر، وهذا أمر يؤخذ على شخصيته، التي وصفت فيما بعد بأنها عروبية الهوى. وإضافة إلى ذلك لم يتردد في التأكيد على أمن «إسرائيل». وعلى رغم هذا، فإن مواقفه في عهده الرئاسي، كانت في عمومها ليست ضد العرب وأفريقيا، وبالمقابل لم تكن ضد إسرائيل، فشيراك كان يحاول التعاطي بحالة من التوازن، من دون الاصطفاف في سياسة المحاور.


إنه شخصية استثنائية، في عالم السياسة، فهو السياسي «العصامي» الذي انطلق من الصفر، فليس شيراك وريثاً لإرث عائلي سياسي، لكنه حمل التواضع والتسامح مع العظمة والرفعة في شخصيته وتصرفاته.


وهكذا رحل بلدوزر السياسة الفرنسية جاك شيراك الاشتراكي الهوى والثعلب السياسي والسياسي المتواضع، الذي استطاع بموته جمع الفرنسيين؛ اليمين واليسار للحزن عليه، وعلى مدح تاريخه الغني بالأحداث.