بلغة هادئة ونبرات واثقة هكذا تكلم الرئيس الأميركي دونالد ترمب من فوق منصة اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حول أميركا والعالم، ومستقبل الكوكب الأزرق بآلامه وآماله، في الحاضر والمستقبل.
بدا الرئيس ترمب جاكسونياً إلى أبعد حد ومد، بمعنى أنه فضّل إعادة فكرة أميركا الاستثنائية، أميركا الحلم الكبير، وإن غلّف الحلم بما يراه متسقاً مع أمن بلاده وأمانها.
خلا خطاب الرئيس ترمب من عبارات الفوقية الإمبريالية الإمبراطورية التقليدية، وثيقة ولصيقة الصلة بأميركا الجيفرسونية، وبدا وكأنه مرة أخرى أقرب إلى الويلسنية، وإن لم يستغرق في الخطاب اليوتوبي، وبالقدر نفسه باعد بينه وبين نبرة الثأر والانتقام وسيادة العالم للمحافظين الجدد.


ترى هل كان رحيل جون بولتون عاملاً مؤثراً في توجهات ترمب؟
لا يهم الأمر من حيث التنظير الآيديولوجي، بل الأهم هو طريق أميركا لإقامة تحالفات جديدة، وبحلفاء يثقون بها، ولا سيما إذا كان ديدنها العدالة الأممية التي تناولها ترمب في سطور خطابه، الذي تجاوز المدة المحددة لبقية كلمات زعماء العالم.


يضيق المسطح المتاح للكتابة عن مناقشة ما ورائيات ما صرح به سيد البيت الأبيض، وإن كان يعنينا بنوع خاص قضايا وملفات الشرق الأوسط والخليج العربي، وبأكثر تحديداً موقفه من إيران السادرة في الغي والسعي للهيمنة وبسط سيطرتها على دول الجوار، كما قال ترمب تصريحاً مرة وتلميحاً مرات كثيرة.


يلفت النظر أمران في شأن ترمب؛ إذ في تصريحات له مباشرة قبل كلمته أكد أن بلاده لا تسعى إلى الصراع أو الصدام مع أي دولة أخرى، لكنه في الوقت ذاته وبلغة الواثق شدد ترمب على أن ذلك لا يعني عدم الدفاع عن الصالح والمصالح الأميركية حول العالم.


عبر عقود طوال كانت المملكة العربية السعودية خير صديق وحليف للولايات المتحدة؛ ولهذا يعد خطاب ترمب في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعترافاً أميركياً رسمياً بأن إيران هي التي تقف وراء الاعتداءات الإرهابية على منشآت «أرامكو» النفطية.


تعبيرات ومفردات ساكن البيت الأبيض تجاه طهران ونظام الملالي لم تعزها الدقة، فقد وصفت في حقيقة الحال المشهد خير توصيف؛ إذ اعتبرها نظاماً قمعياً، ينشد استراتيجية الموت، ويصدّرها للعالم من حوله، ولا سيما لجيرانه، ناهيك عن كونه أكبر داعم للإرهاب في سوريا واليمن.


لدى الرئيس ترمب قناعة مطلقة بأن طهران تسعى للحصول على سلاح نووي، وبقدر القناعة بدا الرفض المطلق من قبل رئيس الولايات المتحدة لهذه الفكرة المجنونة التي لا يقبل بها محبو السلام في شمال المسكونة وجنوبها.
ولعله من المثير أن التلاعب الإيراني قد حاول أن يشاغل ويشاغب الرئيس الأميركي، عن طريق الالتفاف على الأهداف، ومحاولة سرقة الأضواء، وتسويف الوقت، غير أن الساعة كانت قد تجاوزت الحادية عشرة بالفعل.
قبل كلمة الرئيس ترمب، كانت وكالات الأنباء تفيد بأن الرئيس الإيراني حسن روحاني، الممنوع أن تطأ قدماه أراضي مدينة نيويورك، يعلن عن أن بلاده مستعدة لمناقشة إدخال إضافات أو تعديلات على الاتفاق النووي، إذا رفعت العقوبات.


من يصدق طهران إذا تحدثت، ومن يثق بالملالي إذا وعدوا؟
قبل نحو شهر من الزمن القريب كانت طهران تتحدث عن رغبتها في تفاهم إيراني - خليجي مشترك من أجل حماية أمن المنطقة، وفي أقل من أسبوعين كانت تحيل المنطقة برمتها إلى جحيم مقيم، تتبدى من خلاله نواياها الساكنة تحت الجلد منذ زمان وزمانين.


أغلق ترمب نافذة التحايل الإيراني مرة وإلى أن تغير طهران سلوكها، وإلا فالأقسى والأقصى حاضران، فمع أنه رئيس لا يفضل الصدام أو الصراع، إلا أنه يعلن وبكل جرأة أن جيش بلاده هو الأقوى عالمياً في اللحظة الراهنة، ولا سيما بعدما أنفق تريليونين ونصف تريليون من الدولارات لإعادة بناء الجيش، ليضحى حائط الصد الأول داخلياً وخارجياً.
هل بلغت الرسالة خامنئي وحرسه الثوري؟


أغلب الظن أنهم في طريق تخطيطهم الآن لفخاخ جديدة لاستدراج جيش ترمب لمواجهة لا يفضلها الرجل الساعي إلى فترة رئاسية ثانية، غير أنه وبكل تأكيد وتحديد سيجد نفسه عما قريب في مواجهة ردات فعل إيرانية ضمن سياق الاندفاع الجنوني للهرب من ضغوط الداخل الإيراني، وتصدير الإشكالية برمتها إلى الخارج.


ستستمر عقوبات أميركا، بل وتتعزز يوماً تلو الآخر، طالما بقي العنف الإيراني من دون مبرر، هذا هو جواب ترمب على الإيرانيين، الذين تطلعوا منذ بضعة أسابيع إلى لقاء في كواليس الأمم المتحدة مع ترمب، لقاء ييسر من رفع بعض العقوبات ويفتح المساقات لبناء اتفاقية نووية جديدة.


لم تعد اتفاقية أوباما مع إيران لتقنع أحداً، وها هي المواقف الأوروبية تتحول تدريجياً، والجميع يدرك أن إيران أضحت خطراً داهماً على الأمن والسلم الدوليين، وأن التهاون أو التلكؤ في المواجهة ستكون أكلافه عالية وغالية.
إيران في مواجهة المجتمع الدولي برمته، وليس أميركا وحدها... فانظر ماذا ترى؟