«هَبوني عيداً يجعل العُرب أمّة    وسيروا بجثماني على دين برّهم

فقد مزّقت هذي المذاهب شَملنا    وحَطّمتنا بين نابٍ ومنسم

سلامٌ على كُفر يوحّد بيننا    وأهلاً وسهلا بعدها بجهنّم»

(الشاعر القروي سليم الخوري)

عندما كنتُ أدرس في الجامعة العربية الأميركية في بيروت، أي من حوالى أربعة عقود تقريباً، فاجأتني أستاذة الأدب العربي الدكتورة وداد القاضي بتصريح ناتج من بحث معمّق في الشعر العربي الجاهلي!

التصريح هو أن تغني ذاك الشعر بالشهامة وغضّ الطرف والمروءة وإلى ما هنالك من صفات حميدة، لا تعني وجودها في حياتهم بشكل يومي، بل على العكس فإنها تعبّر منطقياً عن نُدرة هذه الصفات في تلك الأيام. فالمنطق أيضاً يقول انّ التغَنّي يكون عادة بما هو نادر، وفي المنطق أيضاً فإنّ مجتمعاً قَبلياً من البدو الرحّل، حيث أنّ الغزو والإغارة وما يُقال عن وأد البنات لحفظ عرض القبيلة كلها تشير الى أن الحياة اليومية كانت قائمة على الغدر والخيانة والثأر والاستقواء والاغتصاب. أما عكس تلك الصفات فقد كان استثناءً.

بالطبع، وأنا مَن عشتُ طفولتي على أساطير العرب والعروبة، لم يعجبني ذاك الحديث رغم منطقيته، ففجأة ومن دون تمهيد، سقط البرج العاجي عن الماضي التليد والإرث المجيد، وأصبح شعار الأمة العربية الواحدة ينقصه وجود رسالة خالدة!

الواقع أنه مرّت سنوات قبل أن أقرأ كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وفيه بحث ينفي بالكامل حتى وجود شعر جاهلي كما وصلنا، مؤكداً أنّ هذا الشعر هو جزء من نَسج الأسطورة التاريخية للعرب، وأنّ الشعر المسمّى جاهلياً وُضِع في العصر العباسي.

والواقع أنّ غياب الوثائق المنسوبة لتلك الحقبة قد يدفع للشكّ بكل ما قيل عن الشعر في تلك الفترة، ومن ضمنها طبعاً المعلّقات السبع، وغيرها من الأمور المتعلقة بسبق التاريخ في المعاني. وهذا الموضوع على كل الأحوال مدار بحث أكاديمي في أيامنا لا نعلم إلى أين سيؤدي، وللأسف فإنّ الباحثين بأكثريتهم من غير العرب.

ما لنا ولكل تلك الإطالة، ولكن الشيء بالشيء يُذكر، فإنّ جزءاً من الأسطورة الوطنية اللبنانية منسوج على مقولات وشعارات عظيمة لدرجة أنها تتردد على لسان كل سياسي ومسؤول يرغب في ملء الفراغات في منطق خطابه، وهي كثيرة لدرجة تشبه الجبنة السويسرية، لكنّ اعتماد هؤلاء على جَهل السامعين من جهة، وعلى شخصيتهم الآسرة من جهة أخرى، سمحت لتلك الخطَب العصماء بأن تمر من دون نقد أو تمحيص.

من تلك المقولات مثلاً وليس حصراً: «الوحدة الوطنية، والعيش المشترك، والشراكة الوطنية، والتعايش، أو المسيحي والمسلم أخوة...» لكن إن كان ذلك كله صحيحاً ويمثّل حقيقة حياتنا اليومية، فلم الحديث عنه؟ ولِمَ تكرار الحديث عمّا يؤكد عكسه ويناقضه مثل: «وأد الفتنة المذهبية، قطع الطريق على الفتنة الطائفية، لعن الله من أيقظَ الفتنة النائمة، وكنّا على شفير الإنفجار الطائفي»؟

وإن كان الكل في حال وحدة، فما جدوى هاجس الوحدة المسيحية، والوحدة الإسلامية والوحدة السنية والدرزية والشيعية؟ وما معنى شعار «أوعى خيّك»، مع اعتذاري لصديقي ملحم الرياشي المغرَم بالتعابير الوجدانية؟

فإن كان شعار المصالحة المؤقتة التي بَدت أنها مجرّد زواج متعة بين حزب «القوات» والتيار «الوطني الحر» هو «أوعى خيّك»، فهذا يعني منطقياً بأنّ الأخ هو المسيحي، أمّا الآخرون فبطبيعة الحال ليسوا من فصيلة الإخوة. وإن كان المقصود بـ«أوعى خيّك» هو تحاشي أذيّة الأخ المسيحي، فهل يعني جَواز أذيّة الآخرين من «الغويم» مثلاً؟

وإذا كان لبنان وماؤه وبحره وجبله ملك الجميع، فما هذا الجدل السخيف على بركة القرنة السوداء؟

وكيف تحوّل ذاك الجبل أرضاً مقدسة لأنها «تحوي دماء شهداء مسيحيين»؟ وكيف أصبحت أرضاً مقدسة إسلاميّاً بعد صلاة الجماعة هناك؟ كان يكفي اللجوء إلى القانون والمنطق، وبحث وجوب إقامة البركة والمصلحة والضرر منها، بَدل قيامة القيامة والتهييج والتجييش بإسم الدين، والذي يُبادر به عادةً مَن نَدر وجوده في صلاة الأحد أو الجمعة إلّا على عيون الناس، وإن وجدوا فهم يبالغون بالتعبير عن التقوى.

وما جدوى اتهّام رئيس الحكومة بالطائفية لمجرد أنه سعى لإقرار مشروع لمنطقة فيها مسيحيين ومسلمين ولم يُقرّ لأخرى؟ مع العلم أنّ هذا الرئيس بالذات متّهم من قبل طائفته بقِلّة حرصه على مصالحها!

«عصفورية» بكل معنى الكلمة، وليعذرني قداسة البابا الذي أحبّ هذا البلد وزارَه، فلبنان الرسالة هو مجرّد تَمن.

لكنّ المفارقة المثيرة للشفقة فهي كوننا نعطي اليوم دروساً ونصائح، ونوهِم العالم بأننا نستحق أن نكون «مركز أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار» فيما نحن عاجزون عن الحوار في ما بيننا!

عفواً سيدي، إنّ فاقد الشيء لا يعطيه.