يتلاقى القاصي والداني من المتابعين للأزمة التي يعيشها لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً، على انّ المعالجات المطروحة لها تخطّاها الزمن ولم تعد تجدي، وبات المطلوب إيجاد حلول جذرية تُبنى على اساس الاعتراف بالأسباب الحقيقية للأزمة، من دون اللجوء الى «نظرية المؤامرة» على طريقة بعض الأنظمة والاحزاب في تبرير الفشل.
 

الأزمة، على ما يوصِّفها المتابعون، هي في حقيقتها ناجمة عن مديونية عامة اقتربت من رقم المئة مليار دولار، وتبلغ خدمتها من فوائد وخلافها نحو 13 مليار دولار سنوياً، حيث انّ هذا الرقم لا يمكن تأمينه حتى ولو تمّ التوقف عن دفع رواتب الموظفين وزيادة ضرائب في هذا المجال او ذاك، ما يعني انّ البلد مفلس رقمياً من دون إعلان رسمي، وانّ الإصلاحات المطروحة سبيلاً للخروج من الأزمة باتت اشبه بـ«الاسبرين»، وتضييعاً للوقت، فيما المريض يحتاج الى جراحة، اي الى معالجة في العمق.

والاسباب الحقيقية للأزمة، على ما يختصرها المتابعون لها، هي ان مجموعة من القوى السياسية والحزبية، التي كانت في ما مضى تعتمد على تمويل خارجي، قد افتقدت هذا التمويل، ما دفعها الى البحث عن تمويل من الداخل، فوجدت ضالّتها في مجموعة من المرافق والادارات العامة «الدسمة» في الدولة، مقدّمة التبرير اللازم لفعلة وضع اليد، بل السطو، على المال العام، الى درجة انّ التسوية التي حصلت في البلد في خريف 2016 يذهب البعض الى التأكيد انّها تضمنت «بنوداً مالية» وأخرى سياسية غير مكتوبة، كانت علّة نفاذها واتفاق المعنيين عليها.

لذلك، يقول المتابعون، إنّ كل فريق من الأفرقاء السياسيين الشركاء في التسوية الشهيرة، نال سابقاً وينال الآن حصته من انتاجها، في ضوء التبرير الذي قدّمه وتفهمّه شركاؤه الكبار منهم والصغار في هذه التسوية. فالعهد نشأ على اساس «صفقة رئاسية» قضت بإنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية مقابل تولّي سعد الحريري رئاسة الحكومة طوال عمر العهد البالغ ست سنوات. وفي ضوء هذه الصفقة حصل اتفاق غير مكتوب على توزيع «عائداتها» السياسية وغير السياسية، في اعتبار انّ البعض وجد في حصّته من هذه العائدات ما يساعده في إعادة تفعيل حضوره السياسي والشعبي في بيئته السياسية والطائفية.

الى ذلك، وحسب المتابعين أنفسهم، هناك اسباب أُخرى للأزمة، منها الوضع المتدهور الذي تعيشه منطقة الخليج، ومنها ايضاً السياسة التي ينتهجها الحكم في موقفه الداعم لـ«حزب الله» والمقاومة، والتي لا تروق للولايات المتحدة الاميركية التي فرضت وتفرض عقوبات على «الحزب» وتأخذ لبنان في طريقها.

ويضاف اليها العقوبات الخليجية، بحيث أنّ هذه العقوبات مجتمعة تمنع الاستثمارات في اي مجال في البلد، ما يعني انّ الأزمة باتت أعمق بكثير مما يتصوره البعض، وانّ حلّها لا يُعالج بخفض رواتب المتقاعدين، ولا بأخذ المال من الناس سواء باكتتاب في سندات خزينة أو غيرها في مصرف لبنان، الذي يشكّل الوسيط بين وزارة المال وبين المصارف والناس.

على انّ الدولة في ظلّ هذا الواقع لا تستطيع إجراء اي إصلاحات لأنها مبنية على «صفقة شاملة» تمنع الإصلاح، والدولة، بما هي عليه من اهتراء، تشكّل عنوان الفساد، كونها نشأت على اساس محاصصة، ها هي تنسحب على كل قرار أو تدبير يتخذه مجلس الوزراء وغيره من المؤسسات في اي مجال من التعيينات الادارية الى غيرها من القضايا.

إزاء هذا الواقع، لا يستبعد المتابعون، لجوء السلطة الى رفع الدعم عن الليرة في لحظة ما، لإعتقادها انّها بذلك تُخفِّض حجم الدين العام وحجم فاتورة خدمته السنوية.

فصحيح انّ هذا الامر يمكّن الدولة من حلّ جزء كبير من أزمتها المالية، ولكنه في المقابل يُحدث ازمة اجتماعية كبيرة في البلاد، لأنّ قيمة رواتب الموظفين، وحتى المال الموجود في جيوب الناس، سيفقدان قيمتهما الشرائية وكذلك قيمتهما ازاء العملات الصعبة التي سترتفع اسعارها بنسبة كبيرة إزاء الليرة اللبنانية.

ويلاحظ المتابعون انّ في الأفق حالياً ما يؤشر الى حصول أزمة مالية حادّة وانّ كل ما يحصل على ارض الواقع ليس إلاّ مؤشرات للوصول اليها.

على أنّ حجم الأزمة بات كبيراً، في رأي المتابعين، الى درجة «أنّ البلد بلغ نصف المسافة في الطريق الى الانهيار، ويُخشى ان تكون خطاه متسارعة في النصف الثاني المتبقي منها.

وهنا يسأل المتساءلون عن طبيعة المضاعفات التي ستنجم عن الازمة، أتذهب في اتجاه انفجار اجتماعي وفوضى بدأت تتمظهر في بعض التحرّكات الخجولة في الشارع منذ ايام؟ ام تذهب الى فلتان امني يرافقه نزول الجوعى الى الشارع غير آبهين لما يرتكبونه من اعمال عنف وتخريب؟.

حتى الآن، لا يرصد المتابعون، وجود أفق سياسي لحلّ الازمة، ولا أفق اقتصادي. ويقول هؤلاء إنّ اللغة العربية فيها ما يكفي من عبارات التطمين التي كان على حاكمية مصرف لبنان أن تُطلقها. فهي تدرك انّ الوضع الاقتصادي والمالي سيىء، وانّ هناك ازمة سيولة «دولارية» في السوق ولدى الناس. فما كان عليها ان تعلن انّ هذه الأزمة غير موجودة، لأنّ ذلك يسيء الى صدقيتها، وكان عليها ان تقول للبنانيين «إنّ الوضع دقيق ولا تزال تمتلك كل وسائل المواجهة».

وفي رأي المتابعين انفسهم، انّ التعويل على موقف اميركي ـ غربي من شأنه ان يوقف مسير لبنان نحو الانهيار ليس في محله، لأنّ الهمّ الوحيد للإدارة الاميركية في لبنان هو تطبيق السياسة الاسرائيلية الهادفة الى «تجويع حزب الله وتركيعه»، وانّ ما تتخذه من اجراءات وعقوبات ضد «الحزب» إنما تزيد الوضع اللبناني سوءاً، غير عابئة بما سيؤول اليه، وهي فعلت الشيء نفسه في دول أخرى غير لبنان.

ويخلص المتابعون الى الاستنتاج، انّ الامل في المعالجة ضئيل. لكن إذا تخطّى لبنان عتبة رأس السنة الجديدة من دون افلاس، يمكن عندها الحديث عن امكان تجاوز خطر الانهيار في اتجاه آفاق الانفراج تمهيداً لإيجاد الحل الكبير.