لم يسبق أن شهد لبنان حصاراً تتكامل فيه الضغوط بين الداخل والخارج، بين الشَعبي والديبلوماسي. وبالرغم من تعدّد الأسباب وتنوّعها، إلّا أنّ النتيجة تبقى واحدة، وهي أنّ لبنان في حالة حصار شديدة من كل الاتجاهات.
 

يمرّ لبنان في مرحلة صعبة ودقيقة من تاريخه، تجمعّت فيها الاعتبارات الاقتصادية والمعيشية والمالية مع الاعتبارات السياسية والديبلوماسية والحسابات الإقليمية والدولية، الأمر الذي يضع الحكومة بين مطرقة المطالب الشعبية وهواجسها المالية والاقتصادية، وسندان العقوبات الأميركية والشروط الفرنسية والمواجهة الإقليمية.

 

وتَجد الحكومة نفسها تسير بين النقاط من أجل مواجهة كل هذه التحديات وتجاوز قطوع سقوطها في الشارع، إذا لم تنجح في احتواء نقمة الناس من خلال تدابير وإجراءات تُخرج البلد من النفق الاقتصادي المظلم الذي جعل المواطن يعيش القلق على مصيره ومستقبله، في ظل البطالة الآخذة في التوسّع، والسوق السوداء لسعر صرف الدولار، وأزمة المحروقات التي أطَلّت برأسها، وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، والمخاطر الأمنية من إقحام «حزب الله» لبنان في حروبه الإقليمية.

 

وفي موازاة الغضب الشعبي الذي يمكن ان ينفجر في الشارع، إذا لم تتمكن الحكومة من وضع خريطة طريق واضحة المعالم تُعيد وضع القطار الاقتصادي على السكة الصحيحة، فإنّ التحديات التي تواجهها الحكومة متشعّبة ومتداخلة، ويمكن تفنيدها كالآتي:

أولاً، تحدّي التعامل مع العقوبات الأميركية التي ستتوسّع وتتمدد، ولن تقف عند أيّ حدود او اعتبار، وهذا ما يدركه «حزب الله» الذي بدأ يخرج عن طَوره على هذا المستوى، لأنّ المساعدات التي كان يتلقّاها انحسرت إلى حدّ كبير جداً، ولم يعد من مصلحته المجازفة بمساهمين سيكون مصيرهم التقاعد والعزلة والإفلاس.

ومن هذا المنطلق يحاول توريط الحكومة بتحويلها إلى متراس له بحجّة انّ العقوبات لا تستهدفه وحده، بل تستهدف كل الشعب اللبناني، وتشكّل تعدياً على «السيادة اللبنانية».

ومن الواضح أنه سيعمد إلى ممارسة الضغوط على الحكومة لمواجهة العقوبات ظَنّاً منه انّ واشنطن التي لا تريد انهيار لبنان ستخفّف من إجراءاتها العقابية، وبالتالي سيدخل «الحزب» في مواجهة مع الحكومة التي يستحيل أن تشكّل متراساً له، باعتبار أنّ العقوبات ستشملها وتؤدي إلى عزل لبنان وانهياره.

 

لذلك، يجب تَوقُّع مواجهة مع الحزب، فيما الحكومة او معظم المكوّنات السياسية ستتعامل معه على قاعدة أن «يُقلِّع شَوكه بيده»، لأنّ من أسباب العقوبات دوره الإقليمي وترسانته وأهدافه، ولم يستأذن أحداً أساساً في أدواره من أجل الدفاع عنه.

 

وعلى هذا المستوى أيضاً لا يمكن التقليل من الضغوط الأميركية على الحكومة من أجل الالتزام الصارم بالشروط المالية الدولية، كما الضغوط من أجل ترسيم الحدود البرية والبحرية، في ظل إدراك أميركي أنّ «حزب الله» يُماطل ويناور رفضاً للترسيم بغية الاحتفاظ بدوره «المقاوم» وقدرته على إبقاء المساحة الحدودية مساحة للرسائل الإيرانية.

 

ثانياً، تحدّي الحفاظ على العلاقة مع السعودية والدول الخليجية عموماً، على أثر تَبنّي «حزب الله» هجمات محور الممانعة التي أصابت منشآت «أرامكو» النفطية السعودية، وإسقاطه سياسة النأي بالنفس بالكامل، وتهديده الرياض والعواصم الخليجية بالنيابة عن طهران، خصوصاً أنّ الموقف اللبناني الرسمي، بالنسبة إلى السعودية، لم يكن على المستوى المطلوب، فيما لا تستطيع الرياض أن تَتفهّم المُساكنة مع حزب يستهدفها ويهدّدها، ويعلن على الملأ انخراطه في المواجهة إلى جانب طهران.

 

فالصبر السعودي يمكن أن يَنفد في أي لحظة وعند أي اعتداء إرهابي جديد يَعْتَدّ به «حزب الله»، والحكومة لن تكون قادرة على الاستمرار في حال قررت المملكة قطع علاقاتها الديبلوماسية مع لبنان. وبالتالي، يجب تحذير الحزب من مغبّة مواصلة سياسة التحدي والاستفزاز خلافاً للإرادة اللبنانية، ناهيك عن آلاف العائلات اللبنانية التي تعمل في الخليج وسيكون مصيرها مهدداً.

 

ثالثاً، تحدّي التَكيُّف مع المطالب الفرنسية الإصلاحية من أجل الإفراج عن أموال «سيدر» واستثماراته، حيث بات من الثابت انه لا استثمارات من دون إصلاحات، وهذا يعني انّ لبنان من دون استثمارات يسير بخطى ثابتة وسريعة نحو الهاوية. فالتهاون الدولي مع لبنان انتهى، وفي حال لم يلمس هذا المجتمع الجدية اللازمة فعلى «سيدر» ولبنان السلام.

 

ومعلوم انّ ما يحول دون الإصلاح الجدي وجود شبكة مُنتفعين واسعة تريد إبقاء القديم على قِدمه، وتتجنّب الإصلاح الفعلي من أجل الحفاظ على مكتسباتها ومداخيلها مع شَحّ التمويل السياسي الخارجي.

 

رابعاً، تحدّي خروج «حزب الله»، ليس عن سياسة النأي بالنفس فحسب، إنما عن ضوابط القرار 1701 أيضاً، وإسقاطه للخطوط الحمر، وانتزاعه حق مواجهة إسرائيل على طول الحدود، وإسقاط المسيّرات، وإعلانه الردّ من لبنان على الهجمات الإسرائيلية على مواقعه في سوريا، الأمر الذي يَستَجِرّ مواجهة إسرائيلية، ويضع الدولة في موقع المتفرِّج والمغطّي لدوره.

 

فحيال كل هذه التحديات وغيرها، ستجد الحكومة نفسها عاجلاً أم آجلاً في وضع لا تُحسد عليه باعتبارها مطوّقة من كل الجهات، بل أمام مأزق كبير وحائط مسدود وأمر واقع يصعب تجاوزه، إن شعبياً أو إصلاحياً أو في علاقتها بباريس اذا لم تلتزم الأجندة الإصلاحية، ومع واشنطن إذا لم تتقيّد بالعقوبات، ومع السعودية إذا لم تَلجم «حزب الله»، ومع «الحزب» إذا رفضت ان تكون متراساً له.