ترى مصادر قريبة من رئيس الحكومة سعد الحريري أنّ نسبة الوعي لدى الأفرقاء السياسيين حول ضرورة التزام الشروط الدولية للإفراج عن أموال «سيدر» متفاوِتة. ويعتبر عددٌ من المراقبين أنّ الأفقَ ليس مفتوحاً أمام لبنان على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وأنّ الحلّ الوحيد يكمن في انهيار المنظومة القائمة بكاملها وبناء منظومة جديدة. قبل جلاء صورة «المطالب» الدولية التي تبلّغها لبنان رسمياً، إمتنع حزب «القوات اللبنانية» عن التصويت على موازنة 2019 لأنها لا تتلاءم والإجراءات الإقتصادية – المالية التي تتطلّبها المرحلة، خطوةٌ ما زال رئيس الحكومة سعد الحريري يلوم حليفَه رئيسَ «القوات» عليها. إلّا أنّ «القوات» أكدت أنّ موقفها يقوّي موقفَ الحريري للذهاب أبعد بالإصلاحات في موازنة 2020. وها هي مطالب الخارج تدفع بالحريري في هذا الاتّجاه.
 

يتمسّك الحريري وقوى عدة بمشاريع «سيدر» وقروضه، لأنّ لا أموال أخرى متوافرة تضخّ الأوكسيجين في الجسم اللبناني المريض، فتخوِّله العيش على التنفس الاصطناعي لنحو سنتين بدلاً من أن يتوقّف قلبه عن النبض في غضون أشهر، على رغم التخوّف الدائم من قطع «حزب الله» نبريش الأوكسيجين هذا، خصوصاً بعد التحذير الدولي، تحديداً الأميركي – الفرنسي، من هذا الأمر. فالخارج يقول للمسؤولين: «لبنان أولاً» وإلّا لا «سيدر» ولا دعم.

وتعترف مصادر من تيار «المستقبل» أنّ الفريق الوحيد الذي يُمكن أن يعوّل عليه الحريري في دعمه بتنفيذ الشروط الدولية على المستويَين السيادي والإصلاحي هو «القوات»، إذ إنّ غالبية أفرقاء الحكومة تابعون لـ«حزب الله». كذلك، تبيّن أنّ الإصلاحات التي طرحتها «القوات» حتى قبل إقرار موازنة 2019 تتقاطع مع الإصلاحات المطلوبة دولياً.

في مراجعة لخيارات رئيس «القوات» سمير جعجع منذ 2005، يظهر أنّ الرجل الذي يبدو أنه خسر على مستوى المكاسب والمقاعد والمراكز، نجح في خياراته على المدى البعيد، وتمكّن من كسب ثقة شعبية داخلية تُرجمت نيابياً، ثمّ وزارياً، إضافةً إلى ثقة خارجية، عربية – غربية. البعض يعتبر أنّ محطات كثيرة منذ 14 آذار 2005 نجحت «القوات» في تحقيقها بقرار أو دعم خارجي، إلّا أنّها كانت تستبق الموقف الخارجي دائماً، وتناضل لسنوات لتحقيق أهدافها.

وفي المرحلة الأخيرة، برزت «القوات» قوة وحيدة مُشارِكة في الحكومة، مُندِّدة بمواقف «حزب الله» وأفعاله التي تُعرّض لبنان لمخاطر عدة. كذلك، خرجت عن الإجماع الوزاري وصوّتت ضد موازنة 2019 في مجلس النواب.

ورفضت الدخول في بازار التعيينات والمحاصصة متمسّكة بإقرار آلية للتعيينات وترجمت موقفها بتقديم إقتراح قانون معجّل مكرّر، أسقط مجلس النواب صفة العجلة عنه في الجلسة التشريعية أمس الأول. وعلى صعيد الإصلاحات الإقتصادية قدّمت «القوات» إقتراحات عملية قبل موازنة 2019، وعادت وقدمت ورقتها الإقتصادية خلال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة لتضمين إقتراحاتها في موازنة 2020.

كذلك، ذهب جعجع بعيداً بطرحه استقالة الحكومة الحالية وتأليف حكومة تكنوقراط تضمّ اختصاصيينَ تؤدّي مهمة محددة هي إخراج لبنان من الوضع الإقتصادي الراهن. ويظهر أنّ الخلافات بين مكونات السلطة قد تضع الجميع أمام حكومة أمرٍ واقع كهذه، وقد يتحوّل مطلب «القوات» مطلباً دولياً، إذا أخفقت الحكومة في تحقيق الإصلاحات والشروط المطلوبة في مهلة أشهر قليلة.

لكنّ مصادر «القوات» تؤكّد لـ«الجمهورية» أنّ جعجع لم يطرح الإتيان بحكومة تكنوقراط تبعاً لأيّ إشارات خارجية، بل انطلاقاً من اعتبارات لبنانية بعد قراءة محلية دقيقة للوضع الراهن، كالآتي: عامل الثقة غائب داخلياً وخارجياً، الوضع يتطلب إجراءات وخطوات عملية فورية، الوقت ضيّق وهناك مهلة محدَّدة لا تتجاوز ستة أشهر يجب أن تُتخذ الخطوات المطلوبة خلالها، معظم النقاط المشكو منها لم تعالج على مدى سنوات.

 
 

وفق هذه القراءة، رأى جعجع أنّ حكومةً من هذا النوع، تستطيع معالجة ما لم تتمكّن من معالجته الحكومات المتعاقبة. فـ«القوات» «لا تنفّذ مطالب خارجية، بل مطالب لبنانية انطلاقاً من الحاجة المحلية والمصلحة اللبنانية».

وتقول المصادر القواتية: «إذا حظي المطلب اللبناني بثقة محلية ودولية فهذا يشجّع ويساهم في حلحلة الأوضاع الداخلية، من خلال المساعدات المطلوبة من المجتمعين العربي والدولي بغية تمكين لبنان من مواجهة الأزمة الإقتصادية التي يعيشها».

طَرْح جعجع الإتيان بحكومة تكنوقراط أخذ مداه لدى الدوائر العربية والغربية، وعلى رغم أنّه لا يعتمد جولات مكثّفة ومكوكيّة داخلياً وخارجياً لاعتبارات أمنية، تربط «القوات» بمعظم الدول علاقات وثيقة من خلال سفاراتها في لبنان، ويزور السفراء معراب بنحوٍ دوريٍّ ومنتظم. وتقول الأوساط القواتية إنّ «هذه الدول تثق بقيادة «القوات» وتطمئنّ الى وجودها ودورها انطلاقاً من موقعها وأولويّاتها اللبنانية.

فالمجتمعان العربي والدولي ينظران الى القوات كقوة سيادية تشكّل توازناً في مواجهة «حزب الله»، وكقوة إصلاحية أساسية تتصدّى للسياسات البعيدة من الممارسة الشفافة المطلوبة، حيث برهنت انطلاقاً من ممارستها الحكومية بأنها تتمسّك بالقوانين والدستور والشفافية وبإجراء إصلاحات ضرورية من أجل الانتهاء من لبنان المزرعة ووضع لبنان الدولة على السكة».

على خط الشروط الدولية، تعتبر «القوات» أنّه «من دون مساعدات دولية حقيقية مصير لبنان السقوط، لذلك هناك معايير اقتصادية على لبنان التزامها وشروط دولية عليه التقيّد بها».

المطالب الدولية التي سمعها الحريري من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهي الاستعجال بالسير في الإصلاحات اللازمة وتغليب مصلحة لبنان على أيّ مصلحة أخرى، هي أساساً مطالب «القوات»، التي تضع نصب عينيها في المرحلة الحالية مسألتين أساسيتين:

الأولى، الالتزام الدقيق بسياسة النأي بالنفس بغية إبعاد لبنان عن مخاطر الحروب الإقليمية ومنع توريطه في محاور الصراع الخارجية.

والثانية، إجراء إصلاحات إقتصادية بنيوية، إذ إنّ لبنان مهدّد بالإنهيار في حال لم تعالج الأمور بنحوٍ جدّي، بعيداً من الترقيع المعتمد منذ عقود طويلة والذي أوصل لبنان الى حافة السقوط.