النظام الإيراني يعتقد واهما أنه قادر على استثمار حالة عدم الرد على تهوره بخضوع أهل المنطقة لسيادته السياسية والأمنية، وقبول واشنطن برفع العقوبات عنه. إنها أوهام ما قبل الانتحار.
 

في الأزمة العسكرية والأمنية الحالية التي سببتها حلقات العدوان الإيراني المسلح على الملاحة ومراكز الطاقة في الخليج وآخرها العدوان السافر على مركز النفط السعودي أرامكو، طرحت في الأوساط الإعلامية العربية التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي تحليلات متعددة لتفسير الأزمة ومخاطرها العسكرية. بعضها ينطلق من حرص على سلامة أهل المنطقة، خصوصاً من بين العراقيين، من مهاوي الوقوع في حرب جربها بلدهم وذاقوا من ويلاتها بما يعانون من تبعاتها إلى حد اليوم، وأهل الخليج أكثر من غيرهم حرصاً على السلام والأمن لأن في بلدانهم تنمية واعدة لرفاه شعوبهم وهذا ما يغتاظ منه النظام الإيراني الذي يستغل هذه الرغبة الإنسانية والتمسك بها بابتزاز رخيص لا يمت إلى العالم المتحضر بصلة.

 

ما يهم طهران هو تنفيذ مشروعها لتصدير الثورة في العراق والخليج، ولا تتردد في استخدام الحرب وسيلة لذلك بل هي تسعى لذلك. فالنظام لا تهمه نتائج الحرب إن وقعت وكلفت أبناء الشعوب الإيرانية الخسائر بالأرواح لأنهم في نظره “فداء للولي الفقيه”، مثلما لا تهمه آثارها على العراق والخليج، وقد خاب ظنه فتجربة هزيمته في حربه مع العراق معروفة.

 

هناك حملة إعلامية منظمة يقودها نظام الولي الفقيه وتنفذها مجموعة من المأجورين في المنطقة من كتاب وصحافيين بالإضافة إلى بعض متعاطي السياسة تسوّق لوهم انتصار إيران على السعودية لأنها لم ترد عسكرياً. فصيلة الموالين بالعقيدة من هؤلاء لا يلامون على استماتتهم من أجل بقاء نظام الولي الفقيه، لأن نهايته ستعني نهاية مشروع الجهل والتفتيت الطائفي في المنطقة العربية. لكن ما نتوجه به هنا هو نحو فصيل من الكتاب العرب البسطاء ومنهم كثر داخل العراق الذي يكتسب وضعه السياسي والاستراتيجي في الخليج أهمية كبيرة. هؤلاء وقعوا في شراك كذب هذا النظام من أنه نظام صاحب “دعوة عقائدية إسلامية تحارب الاستكبار العالمي وأميركا”، ويطابقون، جهلا أو عمدا، بين حقيقة السياسة الأميركية والتي سببت الكوارث ضد شعب العراق، وبين أزمة نظام طهران الحالية مع واشنطن وتهديده المتزايد ومخاطره على أهل المنطقة وأمن العالم مستغلا موقع إيران الجيوسياسي على ضفاف الخليج وحدوده مع العراق العربي.

 

يعتقد هؤلاء أنه من الضروري الاصطفاف إلى جانب إيران المظلومة المعاقبة من قبل واشنطن، والتي لها الحق في استخدام كل ما تمتلكه للرد من قوة السلاح ومن بينه سلاح يجاري النمط الحديث الذي تملكه الدول المتقدمة وقد صنعته إيران من أموال الشعوب الإيرانية، ولا بد وفق تلك الذرائع من التسليم بهيمنة أعوانها الحوثيين على اليمن وإيقاف الحرب هناك لصالحهم، وكذلك التسليم بعراق إيراني بسبب وجود قلّة من المغرر بهم والمناصرين له وتجاهل رغبات عموم شعب العراق العربي الأصيل بالحفاظ على استقلاله وأمنه، والضغط على تصغير حكومته الواقعة في أزمة الخيار بين مصالح شعبها وضغوط أعوان طهران عليها.

 

ولهذا فإن شعب العراق وأهل الخليج يرفضون قبول تمادي نظام الولي الفقيه وعدوانه وهم يدافعون عن وجودهم بشتى السبل، وهنا لا بد من تصحيح بعض جوانب هذا الخلط المتعمد من قبل الإعلام الإيراني ومناصريه في تفسير واقع الصراع في المنطقة والأزمة الحالية وتقديم الرؤية الصحيحة لما يحصل عن طريق الفصل بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح العرب وعدم خلطها لصالح المخططات الإيرانية، والاستناد على التجارب الحية وليس بتمرير وصفات أيديولوجية لا مكان لها في الواقع.

 

أهم خلاصة إستراتيجية تتعلق بسياسة الولايات المتحدة التي لا تتغير جوهرياً منذ الحرب العالمية الثانية إلى حد اليوم هي أن المصالح المحركة للسياسات خاصة تجاه الشرق الأوسط تكمن في ضمان التدفق الحر لموارد الطاقة من المنطقة إلى العالم وأمن إسرائيل. فهناك الكثير من الوقائع خلال حرب الخليج الأولى 1980 – 1988 أكدت ذلك، حين دخلت واشنطن بقوة سلاحها الجوي لحماية تدفق النفط ولمنع التهور الإيراني خلال حربها مع العراق في الرد الأميركي على استهداف طهران لناقلات النفط السعودية والكويتية بتدمير سفينتين بحريتين إيرانيتين في 18 أبريل 1988. ووصل الحال إلى إسقاط طائرة مدنية إيرانية في 3 يوليو 1988 كانت تحلق فوق طراد بحري أميركي في مياه الخليج رغم أن ذلك حدث في عهد الرئيس رونالد ريغان الذي حصلت في عهده فضيحة “إيران غيت” التي وقعها في باريس نائبه حينذاك جورج بوش الأب بتزويد إيران بالأسلحة ووثائقها معروفة ومعلنة.

 

النقطة التاريخية المهمة في تجربة تلك الحرب هي أن النظام الإيراني كان ميالاً إلى استمرار تلك الحرب مع العراق حتى احتلاله، باعتقاده أن تحقيق “الهدف الإلهي” بإسقاط الأنظمة يمكن أن يتحقق عبر الحرب حتى إن سقط الملايين وأن توقفها يعني تعطيل هذا الهدف. ولهذا رفضت إيران رسميا إيقاف القتال وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 479 في 28 سبتمبر 1980 أي بعد أيام من نشوب الحرب وقبل به العراق وتلاه التعبير الصادق من قبل الخميني بأنه تجرّع “كأس السم”، لأنه قبل وقف القتال في حياته لاعتقاده أن “الحرب نعمة”. فماذا نتوقع من خامنئي في إدارته للأزمة الحالية وهو يعتقد ويحاول تطبيق نظريته باحتلال المنطقة أيديولوجيا وحربيا إذا اقتضت الضرورة، معتمدا على نجاحاته السياسية بالهيمنة على العراق بسبب الدعم الأميركي نفسه، وهو يقع في أوهام كثيرة ذات أبعاد لوجيستية وإستراتيجية في إدارته لأزمته الحالية:

 

أولا اعتقاده الخاطئ بالتطابق التام ما بين الرغبات الأميركية والمصالح العربية خصوصاً الخليج. ذلك أن دول المنطقة لا يمكنها الخضوع لرغبات الآخرين حين تصطدم بمصالحها الوطنية وأنها تتعاطى بأمنها الإستراتيجي وفق سياق طبيعي يتطابق مع مصالح الدول الكبرى ومن بينها الولايات المتحدة، وإن شغل إيران الحقيقي ليس معاداة أميركا ولكن لانتزاع مكانة على حساب أمن وسيادة ومصالح دول الخليج والسعودية.

 

ثانيا تتوقع طهران أنها قادرة في عمليتها الإجرامية الكبيرة هذه بضرب مركز النفط الإستراتيجي على استفزاز السعودية وجرها إلى رد فعل عسكري سريع تدخل إيران من خلاله إلى اشتباك وحرب واسعة ضد السعودية ودول المنطقة، مثلما استفزت نظام صدام قبل 22 سبتمبر 1980 وبالتالي تضع الخليج داخل جحيم يتم من خلاله تدمير هذه الدول ومرافقها العمرانية والإستراتيجية، ولا يهم هذا النظام الانتحاري تدمير جميع مواقع إيران الإستراتيجية وقد تكون المدن الإيرانية من ضمنها، وهذا هو تفكير من يقول “إن مت ظمآنا فلا نزل القطر”.

 

ثالثاً الوهم الآخر الذي وقع فيه نظام خامنئي هو عدم قدرة الرئيس دونالد ترامب على الرد العسكري المناسب وفق تجربتهم بعدم رده على إسقاطهم الطائرة المسيرة الأميركية قبل شهرين والتي دخلت الأجواء الإيرانية، لاعتبارات تتعلق بحملته الانتخابية، لكي لا يقال إنه تسبب بخسارة جندي أميركي، مع أن الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان يخسر حاليا جنودا أميركان، لكنها مراهنة على ترامب الذي لا تدخل تصرفاته في سياق المنطق، كما أن نوعية الرد لا يفترض أن تكون حربا برية تقليدية واسعة، فهي حرب الصواريخ والدرونات، وقد قال ترامب في تصريح بتاريخ 19 سبتمبر “يمكن أن ترى إيران ضربة قوية جدا”، فلا أحد يستطيع أن يعرف ماذا يقرر غدا.

 

رابعا النظام الإيراني يعتقد واهما أنه قادر على استثمار حالة عدم الرد على تهوره بخضوع أهل المنطقة لسيادته السياسية والأمنية، وقبول واشنطن برفع العقوبات عنه. إنها أوهام ما قبل الانتحار.