لم تنل فرحة النجاح اللبناني بالقرار الأممي بإطلاق مشروع أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار، الذي تقدم به لبنان بشخص رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، حجماً يتناسب وحجم الإنجاز والأهمية بالنسبة للبنان والعالم، وربما يكون للضغط الذي تسببه الأزمات الإقتصادية والمعيشية للبنانيين دور في صرف الإنتباه عن إنجازات ضخمة كهذه لا يمر عليها الزمن، ولا تنحصر مفاعيلها بوقت حدوثها، وتستحق رغم مرارة الكثير من الأوضاع الداخلية أن نضيئ عليها، ونحتفل بها مدركين أن الفرح ينغّصه الكثير من الهموم وتشغلنا عنه الكثير من الإهتمامات.

 

ما يجب أن ننتبه إليه أنّ إهتمام العالم إقتصاديا بالدول الصغيرة كلبنان، لا يكون من باب إقتصادي تفرضه المصالح فقط، أو من باب درء مخاطر أمنية مفترضة لإنهيار هذا البلد أو سقوطه في الفوضى فحسب، بل أيضاً، وربما أكثر، من تقدير مدى الحاجة الى هذا البلد في تقديم نماذج حية تساهم في توفير وصفات علاجية لمشكلات مزمنة ومقلقة يعيش العالم تحت ضغطها وتأثيرها، ويخشى تفاقهما.

 

ان القرار الأممي بإعتماد لبنان مركزاً لأكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار وافقت عليه 163 دولة ورفضته إسرائيل، وتحفظت عنه الولايات المتحدة الأميركية، خشيةً من ترتيب أعباء مالية على الأمم المتحدة تعهد لبنان بعدم وجودها، وحصر التمويل بمسؤولية الدول المؤسسة ومنها لبنان، والدول الراغبة في المساهمة وهي كثيرة، ما يعني أن شبه إجماع تحقق عملياً حول لبنان كمركز لتفاعل الحضارات والديانات ومختبر لتعايشها وتنظيم خلافاتها، وقدرتها على تفادي النزاعات المسلحة، كحاجة عالمية مستدامة.

 

الأكاديمية، ستكون وفقا لتصور رئيس الجمهورية، صرحاً جامعياً يوفر فرصة للباحثين عن المعارف حول الحضارات الإنسانية، وستكون منصة لمؤتمرات عالمية للتشجيع على فكرة التفاعل السلمي والإيجابي بين الحضارات والديانات، لكنها ستكون أيضا منصة لفضّ النزاعات والوساطات فيها، والتفاوض حولها، خصوصاً تلك المنبثقة من تنوع وتعدد عرقي أو إتني أو ديني أو قومي، ويجب أن تشكّل مكانة مرموقة للبنان في السياسة الدولية، وفي الثقافة الإنسانية، وتتحول لاحقاً لمعلم من معالم السياحة الثقافية المستدامة.

 

هذا الإنجاز الذي يكتب لرئيس الجمهورية والذي يتطلع الشوف لإستضافته، لا يعني الشوفيين فقط من موقع كونهم سيفرحون بإعتماد ساحل الدامور مركزاً للأكاديمية، بمبادرة طيبة من بلدية الدامور، بل والأهم لأن الشوف يحتضن بين ربوعه أهم النماذج التي سيقدمها لبنان للأكاديمية، من عناصر التنوع والتعدد وتاريخ النزاعات والتسويات، والقدرة على التغلب على الأزمات، والتفاعل الإنساني العابر للطوائف والديانات.

 

إن جوهر وجود الأكاديمية كتعبير عن حاجة إنسانية لتخطي النزاعات الدينية والنظر إلى تعدد الديانات والحضارات بعين النعمة لا النقمة، يشكل بالنسبة للشوف حاجة وجودية، اذ ان الشوف هو مرآة لبنان بتعدد طوائفه ومذاهبه.

 

لعلها من المعاني الإلهية أن يحدث هذا ببركة رعاية رئيس الجمهورية، في سنة إحتفالنا برعايته بالمئوية الثانية لميلاد المعلم بطرس البستاني، كأب مؤسس لمفهوم التلاقي والحوار، وحفظ التعدد الديني والحضاري كنعمة إنسانية فريدة، ونبذ التعصب والتطرف والعنف كأمراض كارثية جنونية تفتك بالإنسان وتعبث بالأديان وتهلك بها الأوطان.