في حوار القدّيس «أغسطينوس»، فيلسوف المسيحية، مع صديق له من أتباع "المانوية" (ديانة كانت شائعة في القرن الرابع الميلادي) عندما سأله عن موقفه من الحرب قال أغسطينس: «ما هو الشرّ في الحرب؟ أهو موت شخص ما؟ إنه حتماً سيموت يوماً، موته هو من أجل آخرين يحبّون الحياة...». وفي كتابه الشهير «مدينة السماء» يقول القدّيس: «لا يحق قتل الإنسان، لكن هناك استثناء في الشريعة الإلهية، فإنه يجوز قتل الإنسان إذا كان قانون الطبيعة يبرّر ذلك، أو بأمر إلهي، أي إذا منح الله شخصاً ما سلطاناً بالقتل، فإنه ليس إلاّ أداة في يد الله وبذلك لا يُعتبر الشخص قاتلاً» (الكتاب الأول).
 
على هذا الأساس، فإنّ اختراع القتل المقدّس الذي يصبح فيه القاتل أداة لسلطة عليا هدفها «الخير» ليس اختراعاً حديثاً، وأن تسويغ القتل بإرادة مقدّسة تعلو فوق المنفّذ، وتجعله أداة من دون إرادة حرّة هي مسألة قديمة في التاريخ.

ما يعنيه هو أن المنفّذ للقتل في هذا النوع من الجرائم لا تنطبق عليه الصفات السلبية للقاتل العادي أو القاتل المأجور أو القاتل المتسلسل. فالأخير يجري تجريده من كل الصفات الإنسانية ليصوَّر كوحش لا إحساس أو تعاطف أو مبادئ له.

أما منفّذ الجرائم التي تأمر بها «سلطة عليا» لا يعدو كونه أداة لا إرادة حقيقية لها، وبالتالي فإنّ أداة القتل هذه قد تكون إنساناً عادياً في حياته العادية، وقد يتمتّع بمناقبية أخلاقية عالية وصِفات مميّزة في الرحمة والرفق، ومع ذلك فهو قادر على تنفيذ جرائم تتخطى كل معايير الإنسانية لمجرد أنه ينفذ برنامجاً هدفه «الخير المطلق»، ولا يهم عندها اسم أو صفات الضحيّة طالما أنّ موتها ضرورة للسلطة العليا التي تبغي الخير!

وهذا بالضبط ما حاولت فعله «هانا آرندت» في تفنيدها لمحاكمة «آدولف إيخمان» النازي الذي كان أحد المشرفين على المحرقة على أساس أنه كان أداة «مهنية» لإرادة عليا واصفة أمثاله بالشر التافه!

ما لنا ولكل ذلك، فلم يعد يهم ما هي الأحكام التي ستصدر، وما ستكشف عنه المحكمة من متورطين، فقد كان حدس معظم اللبنانيين محقاً منذ اللحظة الأولى باتهام نظام الأسد وأعوانه، ولكن معظمنا كان يحاول تجنّب الاتهام المباشر لـ«حزب الله» بتنفيذ تلك الجريمة، ربما لتفادي الصِدام، مع أننا كنا مقتنعين بأنّ منظومة هذا الحزب الأمنية كانت على علم بطريقة أو بأخرى بما يحدث. لكن ثبوت قيام «قدّيسي» الحزب بتنفيذ الجريمة تلك، وحماية حزبهم لهم، والتلميحات بوجود عماد مغنية ضمن الشبكة الخضراء، تجعل من كل منظومة ولاية الفقيه في موقع الاتهام. على هذا الأساس فإنّ «فتوى» اغتيال رفيق الحريري لا بد أنها صدرت من أعلى سلطة في هذه المنظومة، أي المرشد الأعلى علي خامنئي.

اليوم أضافة المحكمة الدولية سلسلة جديدة من الجرائم بحق عصابة القتل المرتبطة بحزب الله، وبكل موضوعية، فلن يؤثر الإتهام الجديد في ضمير أتباع الحزب وجمهورة بالمرة، فما هم الغريق من البلل؟ وحزب الله غرق منذ جريمة اغتيال رفيق الحريري في بحر من الدماء في سورية واليمن والعراق، فما ولن يضنيه جريمة أخرى يتهم بها قديسوه القالة العقائديون الموعودون بخير الدنيا والآخرة!

هل يُحرج كل ذلك هذه المنظومة أخلاقياً؟ الجواب هو أنّ مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة» هو القاعدة الأخلاقية الوحيدة التي تسيّر كل منظومات القتل السياسية ولا فرق إن كانت مسلمة أو مسيحية، مؤمنة أو ملحدة، يمينية أو يسارية، فالقاتل هو مجرد أداة لإرادة عليا هدفها «الخير المطلق» ويتحوّل فيها إسم القاتل إلى قدّيس أو فدائي أو مناضل ثوري...!