بعد كلِّ عمليّةٍ إيرانيّةٍ في الخليج، تُرسل أميركا أسلحةً جديدةً إلى السعوديّة، وتَفرض عقوباتٍ جديدةً على إيران. لا الأسلحةُ حَمَت السعوديّة ولا العقوباتُ ركّعت إيران؛ ولا هذا التصرّفُ أحيا صِدقيّةَ أميركا تجاه حلفائِها وأعدائِها. غريبٌ أنْ تكونَ دولةٌ شعارُها «الله يبارك أميركا» (God Bless America) ولا تَحمي أصدقاءَها كفاية. وغريبٌ أن يكونَ إنسانٌ رئيسَ أكبرِ دولةٍ في العالم ولا يحوزُ على وَقارِ الشعوبِ والأمم. الدولُ تتعاطى مع ترامب كونَه رئيسًا فقط، ولا تتعاطى معه كونَه أيضًا شخصيّةً قائمةً بذاتِها، وتُشرِقُ عظمةً وحِكمةً واتزانًا.

 

يستطيع رئيسُ الولاياتِ المتّحدة الأميركيّة أن يَصونَ مصالحَ بلادِه من دون ابتزازِ الدولِ الأخرى، لاسيّما أصدقاءُ أميركا. ويستطيع أن يؤكّدَ تَفوّقَ أميركا من دون احتقارِ الآخَرين والاستخفافِ بهم. حتى الآن الرئيسُ ترامب مفيدٌ لأعدائِه أكثرَ مّما هو مفيدٌ لحلفائِه. ما من ضعيفٍ أكثرَ من قويٍّ يَهرب من ردِّ التحدّي. وما من قويٍّ أكثرَ من ضعيفٍ يَحظى بعدوٍّ متردّد.

 

أثناءَ حملتِه الانتخابيّةِ وبعد انتخابِه، أعلن ترامب رفضَه التورّطَ في حروبٍ جديدةٍ في العالم عمومًا، وفي الشرقِ الأوسطِ خصوصًا. أعداءُ أميركا صدّقوه وتعاملوا مع الولاياتِ المتّحدةِ على هذا الأساس وتَحدَّوْها. لكنَّ حلفاءَها، لاسيما في الشرقِ الأوسط، فضّلوا عدمَ تصديقِ الإعلان وراهنوا على تعديلٍ في الموقف الأميركي إنْ لم يكن الآن، فعلى الأقلِّ في حالِ انتخابِ ترامب لولايةٍ أُخرى، فيصبحُ حينئذ طليقًا. وزيرُ خارجيّةِ أميركا مايك بومبيو، أبلغ، بأسلوبٍ ديبلوماسيٍّ، وَليَّي العهدِ السعوديِّ والإماراتيِّ، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، في 18 أيلول، أنَّ واشنطن غيرُ جاهزةٍ «بعد» لخوضِ حربٍ فيما ترامب يخوضُ انتخابات، وأنَّ العقوباتِ المتصاعدةَ على إيران ستُعطي، وإنْ في وقتٍ أطول، النتيجةَ ذاتَها التي تُعطيها حربٌ عسكريّةٌ في وقتٍ أقلّ، مع فارق هامٍّ هو أن كلَّ الشعبِ الأميركي يؤيّد ترامب في فرضِ العقوباتِ ويُعارضُه في شنِّ الحرب.

 

الذي كان يَنقص ترامب ليُعززَ قرارَه أميركيًّا، قدَّمته إليه نانسي بلوسي، رئيسةُ مجلسِ النوّاب، حين أعلنت في 21 أيلول أنَّ «الأميركيّين تَعبوا من الحروبِ في الشرقِ الأوسط وليسوا مستعدّين لأَنْ يقاتلوا عن السعوديّين». وهذا يؤكّد أنَّ الامتناعَ عن خوضِ الحروبِ هو الجامعُ المشترَكُ بين الحزبَين الجمهوري والديمقراطي. وبالتعبير اللبناني إنه قرارٌ «أميركيٌّ ميثاقيّ».

 

تجاهَ هذه المعطيات، لماذا يَنتظر العالمُ أن تعدّلَ إيران في مشروعِها التوسعيِّ، وأنْ تَكُفَّ عن تحدّي أميركا ودولِ الخليجِ بعمليّاتٍ مَوضِعيّةٍ توتّر الجوَّ ولا تُشعل حربًا؟ إلا أنَّ اللعبَ بالنارِ غيرُ محمودِ العواقبِ عادةً، فالنارُ تُحرقُ القراراتِ الاستراتيجيّةَ أحيانًا. وهذا ما عناه بومبيو في اجتماعاتِه مع المسؤولين السعوديين حين أبلغَهم أنَّ أيَّ عملٍ عُدوانيٍّ إيرانيٍّ خارجَ المألوف سيدفعُ واشنطن إلى إعادةِ تقييمِ موقِفها. موقفُ بومبيو يلتقي مع تحليلِ الديبلوماسيّةِ الفرنسيّةِ التي تَخشى تَدهورَ الوضعِ في الخليجِ والشرقِ الأوسط، فتَقعُ «الحربُ بالغَلَط». لكن، إذا كان الاعتداءُ على المملكةِ العربيّةِ السعوديّةِ وعلى إنشاءاتِ نفطِ «أرامكو» ليس خروجًا عن المألوف، فما هو ذاك العملُ التي يُعتبر تجاوزًا للخطِّ الأحمر؟ أعمليةٌ من نوعِ 9/11/2001؟

 

الواقع أنَّ الرئيسَ ترامب لا يعتبر، أو لا يريدُ أن يعتبرَ، الهجومَ على أرامكو يُشكّل مسًّا بالأمنِ القوميِّ الأميركيِّ أو يُضرّ بالمصالحِ الاقتصاديّةِ الأميركيّةِ على بحجة أن الصين هي المتضرِّرُ الأكبرُ من تعثّرِ تصديرِ النفطِ السعوديّ، وأنَّ ارتفاعًا نسبيًّا لسعرِ برميلِ النفط يُفيد مُنتجي النفطِ في الولاياتِ المتّحدة الأميركيّة.

 

إنَّ السعوديّةَ، وإن كانت تَرغب بوضعِ حدٍّ للتوسّعِ الإيرانيّ، تتخوّفُ، بالمقابِل، من أن تخوضَ أميركا حربًا ناقصةً وتتركَها وحيدةً في منتصفِ الطريق كما فعلت في فيتنام في السبعينيّات، ولبنان في الثمانينيّات، وأفغانستان والعراق وسوريا أخيرًا. تفضِّلُ السعودية حربًا أميركيّةً حاسمةً على طريقةِ تحريرِ الكويت سنةَ 1991 لا حربًا تستمرُّ بأشكالٍ مختلفة على طريقةِ حربِ العراق سنةَ 2003. فالسعوديّةُ، كبلد نفطيٍّ بامتياز، لا تستطيعُ تَحمّلَ حربِ استنزافٍ تَطال أرضَها.

 

بمنأى عن الموقف الأميركيِّ الذي يصارعُ للنأي بالنفسِ عن الحرب، لا توجد حاليًّا منطقةٌ تُهدِّد الأمنَ الإقليميَّ والعالميَّ أكثرَ من الشرقِ الأوسط. فهنا يَتقرّرُ مصيرُ الطاقةِ النوويّةِ الإيرانيّة، ومصيرُ إنتاجِ النفطِ والغاز وخطوطِ نقلِه، ومصيرُ الإرهابِ التكفيريِّ والجهاديّ، ومصيرُ الأقليّاتِ الباحثةِ عن ملاذاتٍ آمنةٍ ومستقلّة، ومصيرُ السلامِ العربيّ/الإسرائيليّ. وعلى مصير ِكلِّ قضيّةٍ يَتعلق مصيرُ الحربِ والسلام في المِنطقةِ والعالم. ومهما تَهرّبت أميركا من الحربِ، علّها «تُقطِّع» انتخاباتِها الرئاسيةَ المقبلةَ سلميًّا، لا بدَّ مِن أن تَقعَ يومًا في شِباكِ إحدى هذه القضايا من دون الجزمِ المسبَقِ بمن سيكون المستفيدُ، أحلفاءُ أميركا أم أخصامُها؟

 

استطلاعُ المستقبلِ يَستدعي الإجابةَ عن الأسئلةِ التالية: 1) هل تريد أميركا حلَّ أزماتِ المِنطقةِ أم تُفضّل تَشعّبَها واستغلالَها ولو على حسابِ القيم وحقِّ الشعوبِ والسلامِ العالمي؟ 2) هل الأعداءُ في الشرقِ الأوسط هم فعلًا أعداءٌ أم حلفاءُ من تحتِ الطاولة؟ 3) هل العالمُ العربيُّ لا يزال أكثرَ خطرًا على إسرائيل من الثورةِ الإسلاميّةِ الإيرانيّة أم انعكسَت المعادلة؟

 

المتعاطون مع إسرائيل يلاحظون حِرصَها التاريخيَّ على الحالةِ الشيعيّةِ في لبنان وإيران، ويَجزِمون بأن ما نغّصَ هذا الحِرصَ هو إقدامُ إيران على اقتناءِ الطاقةِ النووية، وتخطي حزبِ الله الخطَّ الأحمرَ في تَسلُّحه. إذا كانت المفاوضاتُ الأميركيّةُ/الإيرانيّةُ قادرةً بعدُ على ضبطِ المشروعِ النوويِّ الإيراني وطمأنةِ إسرائيل، فهل وضعُ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ بين الدولة اللبنانيّةِ وحزبِ الله ممكنٌ بعدُ، فيُنزعُ فتيلُ الانفجار؟ لبنان والشرق الأوسط ليسا أمام أزَماتٍ تقليديّة، إنهما يواجهان تحوّلاتٍ استثنائيّة. فما حُبِل به بدَنَسٍ منذ عقودٍ في الكويت وأفغانستان والعراق وفلسطين وفي ثوراتِ «الربيعِ الإسلاميّ» سيُولد تِباعًا بالسلمِ حينًا وبالحربِ أحيانًا.