طبيعي أنْ تتجهَ الأنظار هذا الأسبوع إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك. فهذا الموعد الذي يواكب انطلاقة الخريف يبقى التجمع الأكبر على مدار العام. فإلى دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة ترسل الدول قادتها، أو من ينوب عنهم، وترسل أيضاً همومها ومخاوفها وتطلعاتها.


بديهي أن تعطي الأمم المتحدة التغير المناخي الموقع الأول في اهتماماتها. إننا نتحدث عن خطر محدق بالكوكب.
فالاحتباس الحراري ينذر بالجفاف والفيضانات. وتناقص الثلج والجليد. وارتفاع الحرارة. وارتفاع مستوى سطح البحر. وجلب الأوبئة والأمراض. وهذا يعني اختفاء مدن ساحلية وجزر. واختفاء كثير من الكائنات الحية. وزيادة في الأعاصير.


قبل سنوات كان يمكن اعتبار مثل هذا الكلام نوعاً من المبالغة. اليوم هناك اعتراف شامل بحجم المشكلة وخطورتها على رغم موقف الرئيس دونالد ترمب. التقارير العلمية الدولية تتحدَّث عن أن التغير المناخي قد يُطلق في العقود القريبة هجرات مليونية هائلة داخل الدول أو إلى خارجها. هجرات تؤثر سلباً على برامج التنمية وفرص العمل والاستقرار. لقد تخطَّت المسألة موضوع دقِ جرس الإنذار إلى البحث عن مساهمات عملية لخفض حجم المشكلة المقتربة. وواضح أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يعطي موضوع التغير المناخي الأولوية، تدعمه منظمات غير حكومية أخذت على عاتقها حضَّ أصحاب القرار على اتخاذ خطوات عملية لإنقاذ الكوكب من الآثار المدمرة لظاهرة الاحتباس الحراري.


لن يكونَ التغير المناخي هو الموضوع الوحيد المهيمن على أعمال الجمعية العامة واللقاءات التي ستعقد في أروقة المنظمة الدولية. ثمة موضوع آخر فرض نفسه وهو قادم من الشرق الأوسط. إنه موضوع الأزمة التي أطلقها العدوان الذي استهدف منشآت نفطية في السعودية. فهذا العدوان فريدٌ في طبيعته وخطورته، لأنه موجَّه إلى العالم بأسره عبر استهداف أمن الطاقة وإمدادات النفط العالمية.


في موضوع بحجم استهداف منشآت حيوية للعالم بأسره لا بدَّ من انتظار نتائج التحقيقات. تحديد المكان الذي انطلقت منه الصواريخ والطائرات المسيَّرة مهم لوضع الاعتداء في سياقه الحقيقي، والبحث عن وسائل تضمن عدم تكراره. لكن صور الأسلحة الإيرانية التي استخدمت في الهجوم دفعت إلى الحديث عن «البصمات الإيرانية» وهي كانت واضحة في كل الاعتداءات التي شنها الوكيل الحوثي في الفترة الماضية. والأكيد أن ثمة مشكلة في علاقات النظام الإيراني بمعظم دول الإقليم، ومشكلة في علاقاته بمعظم دول العالم، ذلك أن الهجوم استهدف في الوقت نفسه النظام الاقتصادي العالمي.


قبل هذا الهجوم كان باستطاعة الرئيس حسن روحاني الإفادة من منبر الأمم المتحدة لتقديم رواية طهران لخلافها المتصاعد مع واشنطن. وكان سيتحدث بالتأكيد عن استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح وعن الأضرار التي تلحقها بمعيشة المواطنين. وليس سراً أن كلامه كان يمكن أن يلقى بعض الصدى لدى قسم من الحاضرين؛ خصوصاً أن دولاً أوروبية لا تزال تجهد لإبقاء الاتفاق النووي حياً على رغم خروج الولايات المتحدة منه.


الآن تبدو الصورة مختلفة. ففي نظر كثيرين باتت إيران متهمة بمحاولة تحويل إمدادات الطاقة رهينة، لا تشترط للإفراج عنها تسليم العالم بحقوقها، بل بممارساتها والاختراقات التي حققتها في الشرق الأوسط في السنوات الماضية. سيجدُ العالم صعوبة في تصديق كلام روحاني عن مشروعات الاستقرار في المنطقة والتفاهم بين أبنائها. الأمر نفسه بالنسبة إلى حديثه عن أن الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة هو أساس البلاء. وواضح للقاصي والداني أن إيران التي تطالب القوات الأجنبية بالابتعاد عن المنطقة توفر بسلوكها كامل التبريرات لوجود هذه القوات بل لمضاعفتها.


الغريب أن إيران التي تندِّدُ بوجود القوات الأجنبية لا تسعى إلى طمأنة دول المنطقة بل إلى إقلاقها. فبعد حفنة أيام من العدوان على منشآت النفط، نقلت وكالة «الصحافة الفرنسية» كلاماً شديد الوضوح لإمام مدينة مشهد آية الله أحمد علم الهدى. قال: «إيران اليوم ليست فقط إيران، ولا تحد بحدودها الجغرافية. (الحشد الشعبي) في العراق، و(حزب الله) في لبنان، و(أنصار الله) – (المتمردون الحوثيون) - في اليمن، و(قوات الدفاع الوطني) في سوريا، و(الجهاد الإسلامي) و(حماس) في فلسطين. هذه كلها إيران». وكان يمكن إدراج هذا الكلام في باب المبالغات الخطابية الحماسية لولا تطابقه مع تصريحات متكررة لجنرالات «الحرس الثوري» عن 4 بلدان عربية باتت تدور في الفلك الإيراني.


واضح أن النظام الإيراني يسعى إلى فرض وقائع جديدة في المنطقة. وتغيير التوازنات في الإقليم وداخل الدول أحياناً. ويسعى إلى تكريس لغة في التخاطب تناقض تماماً ما تنصُّ عليه القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة. إصرار النظام الإيراني على النفخ في جمر الثورة ورفض التحول إلى دولة، حوّل سياسة تصدير الثورة إلى مفاعل يرسل انبعاثات زعزعة الاستقرار في أكثر من اتجاه. انبعاثات تؤدي إلى تصدع الدول، فضلاً عن اختراق الخرائط بالصواريخ والطائرات المسيّرة والميليشيات. إن «الاحتباس» الإيراني الذي غيَّر مناخ الشرق الأوسط تحول مشكلة إقليمية ودولية في آنٍ. لهذا ليس غريباً أن تشهد نيويورك هذا الأسبوع مشاورات مكثفة حول الانبعاثات الخطرة الوافدة من الاحتباس الحراري والاحتباس الإيراني معاً. إنه امتحان للمنظمة الدولية ولروح المسؤولية لدى كبار اللاعبين على المسرح الدولي.