الجولة الأولى لم تغير واقع الرئاسيات فقط بل بثت رعبا في التشريعيات القادمة.
 
حملت نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية تأكيدا جديدا على صعود الشعبوية عالميا في وقت تتراجع فيه النخب السياسية التقليدية بسبب تواضع أدائها في الملفات الرئيسية، وخاصة الملفين الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما بدا لافتا في النتائج الأولية حيث كان واضحا أن التصويت العقابي قد طال مختلف وجوه الحكم في تونس بما في ذلك حركة النهضة الإسلامية التي لم تتوقف عن التفاخر بوزنها الشعبي والتخطيط للسيطرة على مختلف مؤسسات الحكم.
 
ويسود تخوف واسع من أن تقود هذه النتائج غير المتوقعة، والتي وضعت مرشحا مجهولا في صدارة النتائج، وهو قيس سعيد، إلى زلزال كبير في الانتخابات التشريعية المقررة في السادس من أكتوبر القادم.
 
ووضعت النتائج في مرتبة ثانية شخصية تعيش وضعا معقدا، والمقصود نبيل القروي الموقوف حاليا، ولا يعرف متى يتم إطلاق سراحه وهل سيشارك في الحملة الانتخابية للدور الثاني أم لا، وكيف ستتعامل المؤسسة القضائية مع الوضع لو أن الرجل فاز في الدور الثاني وأصبح رئيسا للبلاد.
 
ووفق مؤشرات أولية ونتائج جزئية، حل القروي بالمركز الثاني ضمن السباق، بحصوله على 15.4 بالمئة من أصوات الناخبين، بعد المرشح المستقل قيس سعيّد بـ18.8 بالمئة، وفق أرقام رسمية بعد فرز 48 بالمئة من الأصوات.
 
وتبدو الأمور صعبة بالنسبة إلى الأحزاب التقليدية، التي تعرف بأحزاب المنظومة القديمة، فيمكن أن تنعكس النتائج المخيبة في الرئاسيات على نتائجها في التشريعيات، خاصة أن بينها خلافات عميقة بسبب العداء بين رؤسائها وأمنائها العامين. كما أن الوقت لا يسمح بإعادة التجميع وبناء قوائم مشتركة.
 
وسيكون نبيل القروي رئيس حزب “قلب تونس” أكبر مستفيد في التشريعية في ضوء وجود جمهور انتخابي ثابت يتمركز بصفة خاصة في الشمال الغربي وبنزرت وبعض الأحياء الشعبية الكبرى في محيط العاصمة تونس.
 
زلزال سياسي
 
لكن لا يعرف إلى من ستذهب الأصوات التي حصل عليها قيس سعيد الذي لا يمتلك حزبا ولا يعرف الجهة التي تقف وراءه، وهل يمكن أن يتحالف مع حركة النهضة التي بدأت تغازله وسط تسريبات عن أنها لعبت دورا ما في صعوده.
 
ويعتقد مراقبون محليون أن الأحزاب التقليدية في تونس ستعرف في السنوات القادمة تراجعات كبيرة، خاصة في ضوء عجزها عن احتواء الشباب ومطالبه، وعدم مجاراة نسق استفادة هؤلاء من مزايا التقنيات الحديثة وخاصة نفوذ وسائل التواصل الاجتماعي التي كان لها الفضل الأكبر في تغيير الخارطة على مستوى الانتخابات الرئاسية.
 
وعزا فريدريك بوبين، الكاتب بصحيفة لوموند الفرنسية تجزّؤ المشهد الانتخابي، الذي يظهره تقدم القروي وسعيّد، إلى تآكل الانشقاقات التي هيمنت على الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، وخاصة حول الإسلام السياسي بعد مشاركة حزب النهضة الإسلامي في الائتلافات الحكومية منذ سنة 2011.
 
ويتسق هذا الأمر مع مد الشعبوية العالمي حيث تتزايد فرص “المارقين السياسيين” ليكونوا في قلب السياسة حتى وإن لم يقدموا أي إجابات منطقية لمشاكل البلاد”، من ذلك أن قيس سعيد أطلق وعودا عامة وجذب إليه الشباب ليس فقط بالوعود، ولكن أيضا لكونه قد ظهر في صورة السياسي الزاهد والمتعفف عن المال العام، في وقت يزدحم فيه المشهد بأخبار الفساد والفاسدين والصفقات المشبوهة.
 
وبينما أنفق مرشحون مئات الآلاف من الدولارات على حملاتهم، لم يكن لسعيد مدير حملة ولا تمويل بل فقط له مقر متواضع في مبنى قديم وسط العاصمة وكان يعول على تبرعات متواضعة من متطوعين يدعمونه.
 
ويقول أحد الذين اختاروا التصويت لقيس سعيد “فخور أني صوتّ لسعيد الذي سيكون رئيسا عادلا وسينقذ ما أفسدته النخبة الفاسدة.. انتخبته لأني على ثقة أنه سيحارب الفساد وسيقيم دولة عادلة”.
 
وينتمي سعيد، الذي يتحدث الفصحى دائما كما لو كان في محاضرة بالجامعة، للطبقة المتوسطة على عكس أغلب الطبقة السياسية. ويقود سيارته القديمة ويقول إنه يفضل البقاء في منزله إذا تم انتخابه بدلا من الانتقال إلى القصر الرئاسي الفاخر في قرطاج.
 
ويدعم سعيد، صاحب النهج الاجتماعي المحافظ، تطبيق عقوبة الإعدام ويرفض المساواة في الميراث بين الرجال والنساء ويركز على اللامركزية في الحكم في بلد لدى ساسة العاصمة فيه قوة مهيمنة على نحو تقليدي، وهو توجه يثير مخاوف كثيرة في الساحة السياسية خاصة في ظل ما يروج من حديث عن وقوف حزب إسلامي متشدد وراءه.
 
ووصف سعيد نتائج استطلاعات خروج الناخبين من مراكز الاقتراع التي أظهرت حصوله على معظم الأصوات، بأنها مثل “ثورة ثانية” قائلا “ما حصل يحملني مسؤولية كبرى لتحويل الإحباط إلى أمل”.
 
وظل القروي، الذي يوصف بأنه برلسكوني تونس، يستخدم لسنوات قناة تلفزيون نسمة التي يملكها والمؤسسة الخيرية التي أسسها بعد وفاة ابنه لتقديم نفسه بطلا للفقراء ومعوضا لغياب الحكومة وتقصيرها، وفشل خصومه في الحد من حصوله على نتائج لافتة رغم وصفه بأنه شعبوي يسعى للمتاجرة بآلام المهمشين والفقراء للوصول إلى كرسي الحكم.
 
وينفي القروي اتهامات التهرب الضريبي وغسل الأموال الموجهة له ويقول إنه يتعرض لحملة ممنهجة وسياسية بهدف إقصائه من السباق الرئاسي.
 
ويقول أنصار للقروي إنهم قد ملوا وعود كل السياسيين التقليديين الذين كانوا كاذبين، وأملوا بأن يفي القروي بوعوده وأن يستمر في دعمه للفقراء، مشددين على أنهم جربوا الآخرين سابقا فلماذا لا يجربون القروي.
 
وجاء في رسالة من القروي إلى ناخبيه تلتها زوجته بعد إعلان النتائج غير الرسمية مساء الأحد “الشعب التونسي عاقب من حاول سرقة أصوات الناخبين عبر وضعي في السجن دون محاكمة وحرماني من التواصل مع التونسيين”.
 
وأضاف في رسالته “الشعب التونسي قال لا للظلم.. لا للتهميش.. لا للفقر.. نعم للأمل”.
 
وتركت الأحزاب التقليدية الملفات الحارقة وراءها وركزت جهودها على إدارة الصراعات الحزبية والشخصية، ولم تكن تلتفت للشباب والمناطق المنسية والأحياء الشعبية المليئة بالفقر والفوضى إلا وقت الانتخابات، وهو ما أفرز تصويتا عقابيا وبحدة كبيرة ضدها.
 
وفيما تستمر حركة النهضة بالمكابرة وعدم القبول بالنتائج الأولية، فقد اعترف رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد بالهزيمة، معتبرا أن “ما حصل هو نتيجة تشتت الصف الديمقراطي.. تلقينا الرسالة التي أرسلها الناخبون وهو درس يجب أن نفهمه جيدا”.