جونسون لا يقول كم يكسب الاقتصاد البريطاني الآن من وجوده داخل السوق. كما لا يقول كم سيدفع عندما يخرج. ولكن هذا كله غير مهم. ذلك أن السطحنة أصبحت موضة رائجة ولها في الغرب جمهور عريض.
 

يقود بوريس جونسون بلاده نحو الهاوية. ولكن مَنْ قال إن ذلك شيء سيء؟ لقد مزق هذا البلد بلدانا كثيرة، بسُعار استعماري شديد. فلماذا يجب ألا يتمزق هو نفسه؟ ما العجيب في ذلك؟ انحطاط الأمم شيء طبيعي في دورات التاريخ.

 

لقد جربت بريطانيا أن تكون إمبراطورية تحكم ثلاثة أرباع العالم بالقهر والجريمة. الآن، تكاد لا تحكم حتى نفسها، إلا بالفوضى التي يعبر عنها برلمان ويستمنستر.

 

هذا البرلمان نفسه، هو واحد من أوسخ البرلمانات في التاريخ. وهناك صدوع واضحة في داخله. الأيرلنديون الجمهوريون لا يشاركون في أعماله رغم أن لهم مقاعد فيه. ويود ممثلو اسكتلندا أن يغادروه. ولئن كان الويلزيون يرغبون الشيء نفسه، ولو على استحياء، بسبب الطبيعة الفلاحية لهذه المقاطعة، فإنهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أمة كباقي الأمم. حتى إن لهم فريق كرة قدم خاصا بهم. وعلما، ولغة لا يتداولونها إلا لأغراض فلكلورية.

 

وهو برلمان صادق على كل الحروب والغزوات والجرائم الاستعمارية، وظل ينافق وينافق حتى أصبح النفاق وجها طبيعيا له، منذ أيام حرب الأفيون ضد الصين، مرورا بوعد بلفور، والعدوان على مصر، وغزو العراق، إلى يومنا هذا.

فقط بعض المثقفين، المنفصلين عن الواقع، هم من ينظرون إليه على أنه برلمان مجيد، بزعم أنه “أم البرلمانات” تارة، وبزعم أنه برلمان أول وثيقة لحقوق الإنسان أو ما يسمى بـ”الماغنا كارتا” تارة أخرى. وهذه من جملة المخادعات التي دأب أولئك المثقفون على أن يخدعوا أنفسهم بها، عندما يحاولون أن يظهروا كمثقفين، يعرفون بعض الشيء، عن بعض الشيء، ويتغافلون عن الباقي، باعتباره من لزوم ما لا يلزم.

ولا يوجد أفضل من بوريس جونسون لكي يمثل حكومة هذا البلد. ولكن ليس لأنه يمارس السياسة بوصفها وجها من وجوه الصعلكة، بل لأنه أرعن.

والرعونة، في الواقع، مظهر مهم من مظاهر الانحطاط السياسي. صديقته نفسها تعرف ذلك. فهو مفسود بدرجة تدفع إلى الصراخ. ولكنه سطحي أيضا. إنما سطحيته مقصودة لذاتها.

وقف ليخاطب جمهورا قبل أيام، فقال “نحن ندفع للاتحاد الأوروبي بليون جنيه إسترليني كل شهر. من دون أي فائدة. ويجب أن نخرج”.

بعض الصعاليك، وهم أمة متزايدة في هذا البلد، سمعوا الكلام وصدقوه. وهو لم يزد عليه شيئا، ولكن ليس لأنه لا يعرف الحقيقة، بل لأنه يتعمد أن يتسطحن، ليمارس السياسة بوصفها نوعا من استهبال جماعي مبين.

بريطانيا تبيع سلعا وخدمات داخل السوق الأوروبية. وكأي “بائع”، فإنها يجب أن تدفع ثمن إتاحة السوق لها. وهذا ما تفعله كل دول الاتحاد التي تتمتع بمزايا السوق الموحدة. ولو أن بريطانيا خرجت من الاتحاد وأرادت أن تواصل بيع ما تبيع، فإنها في النهاية سوف تكون مضطرة، كأي دولة خارجية أخرى، إلى أن تدفع نوعا من ضريبة لذلك. قد تكون في النهاية أكبر من ذلك المبلغ.

جونسون لا يقول كم يكسب الاقتصاد البريطاني الآن من وجوده داخل السوق. كما لا يقول كم سيدفع عندما يخرج.

ولكن هذا كله غير مهم. ذلك أن السطحنة أصبحت موضة رائجة. ولها في الغرب جمهور عريض. كما أن لها رموزا تطنّ وترنّ وتمارس التعري السياسي على رؤوس الأشهاد.

جونسون، ومارين لوبان، وماتيو سالفيني هم من بين أعظم ممثلي الغرب، على هذه الضفة من الأطلسي. وهم مفيدون بدرجة ليس من السهل إدراك مدى تاريخيتها.

الأمم عندما تنحط، بقادة مثل هؤلاء، تقدم مؤشرات مهمة على إمكانية صعود أمم أخرى. هكذا هي دورات التاريخ. وعاقل من يتأملها ويخطط للاستفادة منها.

الإسلام لم يتحول إلى حضارة قائمة بذاتها إلا عندما انهارت الحضارتان الفارسية والرومانية معا. وكانت تلك واحدة من أعظم فرص التاريخ التي سمحت بتقديم بغداد والشام والأندلس، كعواصم علم وفكر وأدب.

ثمة فراغات كبرى يمكن أن تنشأ في الاقتصاد والتكنولوجيا والتوازنات الاستراتيجية، تجعل من وجود صعاليك كهؤلاء مكسبا لكل الأمم التي وجدت نفسها تحت نير العبودية والظلم والاستغلال. لو كان للتاريخ أن ينطق، وهو ينطق بالفعل، فإن الكثير جدا من البلدان التي تعرضت للغزو والأعمال الوحشية والتمزيق يمكن أن تتنفس الصعداء إذا رأت بريطانيا تقع ضحية حماقة داخلية تحظى بالتأييد الشعبي.

والحال، فإنها كلما زادت غلواء ودعما لجونسون، كلما كان ذلك أفضل.

إنها واحدة من أعظم الفرص لكي تتمزق هذه الدولة “العظمى”، فيتمزق معها تاريخها الأسود.

المشكلة الوحيدة، هي أن هناك مَنْ لا يزال لديه عقل في هذا البلد، ولا يريد العيش في أي بلد آخر، حرا من سُعار سياسييه.