الكلام الذي أطلقه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أمام مجلس السفراء السنوي، والذي ينعقد بعد انتهاء العطلة الصيفية، كان كبيراً ومعبّراً ومؤشراً لبدء حقبة عالمية جديدة. هو قال بكل وضوح إننا نعيش نهاية الهَيمنة الغربية في العالم. وأضاف، مُحدداً صورة الخارطة العالمية الجديدة بقوله: الصين وروسيا اكتسبتا قدرة جديدة في العالم.
 

ربما فاتَ الرئيس الفرنسي أن يشير الى انّ هذه الحقبة العالمية الجديدة تطلّ ملامحها انطلاقاً من الشرق الاوسط.

كلام الرئيس الفرنسي قاله وزير الدفاع الاميركي السابق جيمس ماتيس، ولكن بطريقة اخرى في كتابه الصادر حديثاً، حيث اعتبر انّ بلاده عاجزة عن العيش والاستمرار من دون حلفاء، وانّ دونالد ترامب يخسر حلفاء واشنطن في العالم.

امّا الديبلوماسي الاميركي الخبير في شؤون الشرق الاوسط، والذي شارك في ملفاته المعقدة السفير دينيس روس، فقال انّ ترامب نجح في عزل واشنطن وليس طهران، وذهب روس في كلامه أكثر تحديداً، حيث اعتبر انّ استراتيجية ترامب، بتطويع ايران من خلال سلاح العقوبات، فقط هي استراتيجية خاطئة.

والدليل انّ جرأتها زادت فهي، تتّكِل على الايديولوجيا الدينية وعلى مساندة خفية لقوى عالمية كبرى، مثل الصين وروسيا. قريباً، تجري روسيا مناورة ضخمة بين 16 و22 ايلول سيشارك فيها 128 الف جندي وضابط، واكثر من 20 الف وحدة من المعدات والاسلحة، و600 طائرة، إضافة الى المروحيات والدرونز والسفن الحربية. المهم انّ هذه المناورة الضخمة تشارك فيها الصين الى جانب دول اخرى، وتصل حدودها الى بحر قزوين. كما انّ هنالك سعياً لضَم ايران الى الاتحاد الاوراسي، ولو انه ما يزال في بدايته.

لا بل هناك همس في الأروقة الديبلوماسية حول دعم اقتصادي تتلقّاه طهران من بكين وموسكو، يهدف الى عدم إيصال الاقتصاد الايراني الى الخط الاحمر عبر مَدّها بالاوكسيجين المطلوب كي تبقى قادرة على تحدّي واشنطن، لهدفين اثنين: الأول، إفشال المشروع الاميركي بتطويق ومن ثم احتواء التمَدّد الصيني على الخارطة العالمية عبر الفجوة الايرانية، والثاني حماية التمدد الصيني البطيء ولكن الثابت عبر القدرات المالية الهائلة التي باتت تملكها.

واذا كانت واشنطن تعمل على تشكيل تحالف عسكري يضمّ دولاً خليجية وأوروبية وآسيوية الى جانب اسرائيل، من أجل ترويض ايران واجتذابها بعيداً عن الصين وروسيا، الّا انّ الصين باشرت بوضع مشاريع الدعم الاقتصادي لتركيز مواقعها في ايران وسوريا وصولاً الى لبنان.

وتحركت روسيا خطوات في هذا الاتجاه، حيث بَدت أقرب الى ايران في هذه الفترة انطلاقاً من الساحة السورية، وكان واضحاً كلام السفير الروسي في لبنان الكسندر زاسبيكين حين قال انّ قرار خروج القوات الاجنبية من سوريا، أكانوا مستشارين عسكريين او مجموعات مسلحة، يعود الى الحكومة السورية التي ليست لديها ملاحظات تجاهه، وهو كان يعني هنا إيران.

ورغم الاتفاق الامني الثلاثي الاميركي - الروسي - الاسرائيلي، والذي حصل في القدس، اعتبر زاسبكين، العائد حديثاً من موسكو، انّ اسرائيل تبالغ من قلقها ومخاوفها تجاه الوجود الايراني جنوب سوريا.

في الواقع ثمّة كلام حول تفاهمات تقضي بغَضّ النظر عن نفوذ «حزب الله»، وبالتالي نفوذ ايران جنوبي دمشق وصولاً الى الحدود، في مقابل تراجع ايران عن اهتمامها بالصراع المعقّد الدائر في ادلب والحلول المطروحة. روسيا تفرض نفوذها في الشرق الاوسط من خلال حضورها العسكري في سوريا، فيما الصين تدخل من خلال الابواب الاقتصادية الواسعة.

 

ولم يعد سراً الاهتمام الصيني من خلال عروض ضخمة لإعادة إعمار مدن ومناطق بأكملها، وإنشاء بنى تحتية جديدة.

هذا الواقع الصعب يفسّر موقف ترامب التراجعي تجاه كباشه مع ايران. فمن التهويل والتلويح بالحرب الى التمسّك بحصول اتفاق عبر إغراءات قدّمتها فرنسا، وهي تلقى انقساماً داخل ايران بين مؤيّد للتجاوب معها ورفض الجناح المحافظ السير بها، لاعتقاده انّ ترامب يستعجل إدخال الشركات الاميركية الى الاسواق الايرانية لإعادة إنعاش الاقتصاد الاميركي، الذي بدأ يتجمّد، وذلك قبل انتخاباته. ومنذ فترة قصيرة زار لبنان، بعيداً عن الاعلام، وفد يمثّل رجال أعمال صينيين.

والمعروف انّ الشركات الكبرى في الصين مَملوكة من الحكومة. كان هنالك ممثلون لهذه الشركات الكبرى، إضافة الى رجال اعمال آخرين.

قدّم هؤلاء مشاريع عديدة، بعضها على مستوى البنية التحتية للدولة اللبنانية، وبعضها الآخر على مستوى مشاريع واستثمارات مختلفة.

من العروض التي جرى تقديمها ما يتعلق بالأوتوستراد العربي الذي يَصل العاصمة بيروت بدمشق، إضافة الى مشروع يلحظ سكة حديد موازية تربط بيروت بدمشق ومن ثم بخط الحرير وصولاً الى الصين. مع الاشارة الى المشروع الاميركي - الاوروبي، والذي يلحظ ربط أوروبا بإفريقيا، من خلال سكة حديد عبر لبنان وإسرائيل.

كذلك تقدّم الصينيون بمشاريع لشَق أوتوسترادات من الشمال الى الجنوب، وإنشاء محطات لتوليد الكهرباء على الطاقة الشمسية تؤمّن إنتاجاً شبه مجاني للكهرباء.

وقيل انّ الصين مستعدة لبناء هذه المحطات على الطاقة الشمسية في مهلة 8 أشهر وبقوة توليد حوالى 1000 ميغاوات. لكنّ الحكومة اللبنانية «زَحّطت» هذه المشاريع، بذريعة المعارضة الغربية لها. لكن هنالك من يعتقد انّ أحد اسباب تَمَنّع الحكومة اللبنانية هو داخلي وليس فقط خارجياً، وله علاقة بالعمولات الموعودة. فالعروض الصينية تضمنت مثلاً تنفيذاً ليس على طريقة الـ B.O.T حتى، بل من خلال ضمانة من الدولة اللبنانية بالالتزام بتسديد المبالغ بعد 15 او 20 سنة حتى، وبعد ان يكون لبنان قد نجح باستخراج الغاز البحري. وأيضاً في العروض اهتمام صيني باستخراج الغاز البحري، لكنّ الفريق الصيني عاد أدراجه من دون تحقيق اي تقدم.

وفي موازاة ذلك، رُصد ايضاً قيام مسؤول امني صيني رفيع بزيارة الى لبنان، وصولاً الى البقاع حيث للأميركيين حضور في مطار رياق العسكري.
الزيارة الامنية الصينية تمّت بالتنسيق مع الدولة اللبنانية وتحت رقابتها، ولكنها لم تؤدِّ الى نتائج عملية.

والحركة الصينية التي راقبتها واشنطن عن كثب اضافة الى دول حليفة لها، إنتهت الى نتيجة تشير الى تأجيل دخولها الى الاسواق اللبنانية لحوالى السنة تقريباً. ربما لانتظار فتح الورشة الاقتصادية والاعمارية في لبنان، وربما ايضاَ بانتظار استقرار الصورة في المنطقة وسوريا على وجه التحديد.

وقد لا يكون مفاجئاً الاشارة الى انّ للصين تواصلاً، ولو محدود، مع «حزب الله» الذي يستعد لفتح أبواب النقاش على مصراعيها خلال طرح مشاريع التلزيمات والاستثمارات على النقاش داخل الحكومة، وحيث يكثر الهمس عن «طمع» في نسبة العمولات المطروحة، وهو ما اشتَكت منه إحدى شركات النفط الكبرى المهتمّة بالغاز البحري اللبناني.