منذ التسوية الرئاسية في 2016، يطغى وهج سعد الحريري رئيساً للحكومة على كونه رئيساً لتيار «المستقبل». كثيرون راهنوا على صدامات ستحصل بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وبالتالي مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، كذلك على مواجهات بينه وبين «حزب الله»، لكّن الخطوة الصادمة الوحيدة التي اتّخذها الحريري منذ 2016 إلى الآن كانت تقديم استقالته من السعودية في تشرين الثاني 2017، مهاجماً إيران و»حزب الله»، بذريعة العودة إلى التسوية الحقيقية. لكن حتى هذه الاستقالة لم تغيّر كثيراً في المعادلة القائمة، ولم يُصبح الحريري بعدها ممثّلاً لـ»14 آذار» على رأس الحكومة، بل رئيساً وممثلاً للحكومة بمكوّناتها كلّها.
 

لا قانون الإنتخاب الذي قلّص حجم كتلته النيابية، ولا عرقلة تأليف الحكومة وتوزير سنّي من خارج كتلته، ولا حتى فرملة عملها لأسابيع على خلفية حادثة قبرشمون... أو استهداف «السنّية السياسية»، واستهداف أجهزة محسوبة عليه أو إنتقادات الحلفاء والقريبين منه، جعلت الحريري يغيّر مساره السياسي في المرحلة الأخيرة.

حتى كلام عون عن الاستراتيجية الدفاعية، ثمّ عن حق لبنان في الردّ على إسرائيل جراء إعتدائها على ضاحية بيروت الجنوبية، لم يدفعا الحريري إلى «الخصام» مع عون أو معارضة موقفه، بل التزم موقف المجلس الأعلى للدفاع الذي أكد «حق اللبنانيين في الدفاع عن النفس بكل الوسائل ضد أيّ اعتداء».
ولم يُبدِ الحريري أيّ موقف مندّد بكلام الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله الذي أكّد الرد على الإسرائيليين وأسقط «الخطوط الحُمر»، كذلك لم يتّخذ موقفاً من تعريض سلاح «الحزب» لبنان للمخاطر، بل كان في هذا الوقت يُجري مروحة اتصالات دولية لتجنيب لبنان ردّ إسرائيلي على ردّ «حزب الله». وذلك، تماماً مثلما فعل أخيراً من خلال زيارته الولايات المتحدة الأميركية للحؤول دون تحمُّل لبنان العقوبات التي تفرضها الإدارة الأميركية على «حزب الله» والمرتبطين به.

موقف الحريري هذا، خصوصاً لجهة سكوته عن سلاح «حزب الله» خلال جلسات مجلس الوزراء، وتأكيد حق لبنان في مواجهة الإعتداء الإسرائيلي، بدلاً من تشديده على حق «الدولة» فقط، اعترض عليه كثيرون. وتعتبر أوساط معارضة أنّ «موقف الحريري المتساهل ساهم في أن يذهب الحزب بعيداً في استغلال سلاحه واستخدامه، الأمر الذي لم يكن هكذا قبل التساهل. وكان يُفترض إبقاء المساحة واضحة ما بين الدولة و»حزب الله»، مثلما كانت 14 آذار تحدّدها من خلال دور رئيس الحكومة الطليع. فإزالة المسافة بين الدولة و»الحزب» وتماهي لبنان الرسمي مع «الحزب» يعرّض البلد لضربات وعقوبات وحصار دولي، وقد تكون له تداعيات خطيرة، لأنّ هذا الموقف لا يسرّ المجتمعين العربي والدولي».

كلّ ما سبق يُدركه الحريري، كما يدرك أنّ السجالات لا تؤدّي إلّا إلى تأخير الإنتاج، لذلك استعاض عنها بإعتماده سياسة التفاهم، حسب ما تقول مصادر تيار «المستقبل». وتؤكّد أنّ «الأميركيين والفرنسيين والسعوديين يعلمون ماذا يفعل ولماذا يفعل ذلك، فعلى مدى 15 عاماً لم يغيّر الجدل الذي كان قائماً أيّ شيء ولم يُنتج استراتيجية دفاعية ولا عدّل تصرفات «حزب الله»، بل أدّى على أرض الواقع إلى حالة تراجع على كلّ الصعد وإلى تدهور الأوضاع في البلد».

وتشير المصادر إلى أنّ «القرار الرسمي ليس بين يدي الحريري فقط فهناك رئيس جمهورية ووزراء ومجلس نواب. وإنّ الأكثرية النيابية هي لـ»حزب الله»، كذلك الأكثرية في الحكومة مؤيّدة لـ»حزب الله» ورئيس الجمهورية بدوره مؤيّد للحزب»، وتشدّد على أنّ «كلّ ما يقوم به الحريري هو تمثيل خيارات الحكومة، وهو لا يدافع عن «حزب الله» ولا يهاجمه». وتؤكّد أنّ موقف الحريري من «حزب الله» معروف، مذكِّرة بأنّ 5 أشخاص من المتهمين بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ينتمون الى «حزب الله».

بدوره، أكّد الحريري في مقابلة مع قناة CNBC الأربعاء الماضي أنه «يواجه «حزب الله» ليلاً ونهاراً»، وقال: «»حزب الله» لا يدير الحكومة، لكنه كحزب سياسي يملك مقاعد في الحكومة والبرلمان». وأضاف: «لا يديرون الدولة، لكنهم يسيطرون على شرارة أو حرب قد تندلع لدواعٍ إقليمية».


كلام الحريري لن يُترجمه بمواجهات مع «الحزب»، بل إنّه موجّه للخارج في إطار التمييز بين الدولة و»الحزب». وتقول المصادر المستقبلية إنّه اختار هذا الطريق لمحاولة الإنجاز في البلد. وتعترف أنّ «خياره هذا يعرّضه لكثير من الإنتقاد واللوم حتى داخل التيار، وهو يعلم ذلك، لكنه يعلم أيضاً أنه لا أسهل من الكلام والخطابات الشعبية باللعب على شعور الناس».

أمّا عن عدم محاولته طرح موضوع الاستراتيجية الدفاعية، وانتظاره مبادرة رئيس الجمهورية في هذا الإطار، فتشير المصادر إلى أنه حاول مرات عدة ولم يؤدِّ ذلك إلّا إلى جدل عميق وفرملة العمل «وما عاد يمشي شي». فمنذ سنة 2005 كان على طرف نقيض مع «حزب الله» ولم يتغيّر شيء».

أمّا إستفادة الحريري من علاقاته العربية والدولية لـ»الترقيع» وراء «حزب الله» أو حلفائه لتجنيب لبنان تداعيات سياسة الحزب أو أفعاله، فسيستمرّ طالما أنّه قادر على ذلك، «لأنّ فتح مشكلة داخل البلد لن يؤدِّي إلى أيّ نتيجة سوى مزيدٍ من التدهور الإقتصادي».

لكن ألن يؤثّر مساره في علاقاته الدولية والعربية، ولا سيما الخليجية؟ تجيب المصادر: «ربما يعرّض علاقاته العربية للخطر، لكن ليقدّموا له حلّاً آخر، ليجهّزوا الجيوش الجرّارة وليهجموا على «حزب الله». أما على الصعيد الدولي فهناك تفهّم لدوره وما يقوم به».

كذلك، على صعيد العلاقة مع العهد، فإنّ الحريري مقتنع بأنّ عدم التفاهم مع رئيس الجمهورية سيؤدي إلى التعطيل، لذلك اتّخذ الخيار الذي يُمكن أن يؤدي إلى تفاهمات وتسيير عجلة العمل. وهو بذلك، يلعب «صولد»، وتقول مصادر «المستقبل» إنّ «هذه آخر خرطوشة نملكها للنهوض فإمّا تصيب أو لا تصيب».

وتشير إلى أنه سبق أن جرّب كل المعادلات ولم نصل إلّا الى صراع داخلي من دون إنتاج، لافتةً إلى أنّ كثيرين نصحوه ومنهم رئيس مجلس النواب نبيه بري بسلوك طريق التفاهم لا الصدام، وهو متمسّك بالتفاهم مع عون وبري.

أمّا على مستوى تيار «المستقبل»، فعلى رغم إعتراض بعض المسؤولين على ما يعتبرونه «تنازل» الحريري أمام عون و»حزب الله»، لن تبرز في المدى المنظور أيّ معارضة علنية، حسب ما تؤكّد مصادر «المستقبل». لكن على الصعيد الشعبي تعترف المصادر أنّ هناك إشكالاً وتململاً، يراهن الحريري على إحتوائه واستعادة شعبيته إذا نجح مسعاه في تحسين الوضع الإجتماعي - الإقتصادي.