ما تخسره سوريا جسيم بدرجة تفوق التصور، ويتعدى كل الأرقام. والسؤال المُلحّ فيه: ما هو الشيء الذي يمكنه أن يعمل في بلاد تخسر كل ما تملك، إلا رئيس كانت أسواق السياسة وبورصاتها تضمن له مقدارا معقولا من القيمة؟
 

جالت الدبابات في كل شوارع سوريا، وحلقت الطائرات طويلا، بحثا عن سبيل لقصف انهيار قيمة الليرة السورية، إلا أنها لم تجد ما تقصفه. فالدولار الذي كان سعره يبلغ 45 ليرة قبل اندلاع الأزمة، تخطى 650 ليرة، ليكشف هذا الانهيار الصاروخي عن تحد أكبر من أن يستطيع النظام السوري، بكل ما لديه من قوات وميليشيات، مواجهته بالمدافع.

 

على كل مساوئها، فثمة شيء واحد مفيد في الرأسمالية. فسعر العملة يمكنه أن يكون مؤشرا لأكثر من معناه المباشر. حتى إنه مؤشر يذهب إلى أبعد من الدلائل الاقتصادية المألوفة، ليشير مثلا إلى مدى شعبية رئيس، أو ما إذا كانت سياساته متوازنة، أو ما إذا كان حزبه الحاكم جديرا بالثقة، أو ما إذا كان داعموه يملكون مالا لمواصلة دعمه، أو ما إذا كان هو نفسه جزءا من البورصة، فتتلاعب به الضغوط والأقدار.

 

كل هذه المؤشرات يمكنها أن تقول شيئا واضحا لكل الناس، من دون أن يكون بوسع الدبابات والمدافع أن تدحض القول أو أن تقول فيه قولا آخر.

 

والنظام الذي ظل يكمم أفواه الناس ويحاكمهم على كل كلمة يقولونها، وجد أخيرا مَنْ يكممه.

 

فإذا كانت سياسات الدمار الشامل لم تنفع لحفظ الاقتصاد من الخراب، بدلالة انهيار قيمة الليرة، فإنها تواجه سؤالا أكثر خطورة: من يمكنه أن يعيد إعمار البلاد؟

 

التقديرات تشير إلى أن سوريا بحاجة إلى 400 مليار دولار لكي تعيد بناء ما تهدم. ولا أحد من حلفاء النظام يملك هذا المال. هم شاركوا في أعمال الهدم، ولكنهم لا يملكون مالا للإعمار. والعملة إذا كانت تنهار لأن الإيرانيين لم يعد لديهم ما يقدموه، فلأنهم لا يجدون مالا لإعمار خرابهم الخاص.

 

هم يعوّضون ما أنفقوه في سوريا بالاستيلاء على مبان عامة في دمشق وبعض المدن الكبرى، كما يستولون على أراض ومساكن في بلدات مختلفة فر منها أهلها، ولكن ذلك لا يوفر ضمانة كافية لأحد، وذلك بما أن أسعار النظام تنهار في بورصة الحقائق غير القابلة للقصف. وما تم الاستيلاء عليه نهبا، لا يستقيم مع ما يستقيم، إذا عاد الحق إلى أهله، على أي حال.

 

حتى تجنيس الإيرانيين الذين استولوا على تلك الممتلكات، لن يحل المشكلة. فالغريب يظل غريبا، والمسؤول عن الجريمة لا يمكنه أن يستفيد منها.

 

ذلك واحد من أصول القانون المنسية في الثقافة الميليشياوية الإيرانية التي تعتقد أن الدنيا كلها عاشوراء، وأن اللطم على الحسين يمكنه أن يلتبس مع اللطم من أجل الهريسة.

 

مع ذلك، فإن ما تخسره سوريا جسيم بدرجة تفوق التصور، ويتعدى كل الأرقام.

 

والسؤال المُلحّ فيه: ما هو الشيء الذي يمكنه أن يعمل في بلاد تخسر كل ما تملك، إلا رئيس كانت أسواق السياسة وبورصاتها تضمن له مقدارا معقولا من القيمة؟

 

سوريا لم تخسر بنيتها التحتية والكثير مما فوقها من عمارة ثلاثة آلاف عام، ولكنها تخسر قدرتها على الزراعة والصناعة المحلية التي كانت توفر لها نحو 20 مليار دولار، بمثل ما تخسر من عائداتها من النفط والغاز التي كانت توفر لها نحو 10 مليارات دولار سنويا.

 

كما تم بيع جزء مهم من عائدات المستقبل أيضا. ففي مقابل الدعم العسكري الذي تقدمه روسيا، فقد استولت على حقوق التنقيب والتصدير في حقول الغاز الضخمة قبالة السواحل السورية، فضلا عن بعض ملكية الموانئ الرئيسية للبلاد، التي كانت بدورها مصدرا مهما للعائدات، الرسمية و”غير الرسمية”.

 

الليرة تنهار لكي تقول كل هذا، ولكنها تقول شيئين آخرين أيضا.

 

الأول، إن إعادة الإعمار تتطلب تمويلا من جهات دولية تملك المال. ولكن هذه الجهات تريد ضمانات. وترى أن النظام، بطبيعته الراهنة، لا يوفر هذه الضمانات. بمعنى أنه أسوأ من أن يمكن الاستثمار فيه.

والثاني، إن الحل السياسي هو المخرج الوحيد لمأزق انهيار القيمة والاعتبار. فبوجود حل مقبول، يزيل كراهة هذا النظام، ويعدل من مسالكه الوحشية، فقد ينفتح الباب أمام تمويلات مشروطة بانتخابات حرة وعودة اللاجئين، وضمانات تكفل الحريات وحقوق الإنسان.

 

بطريقة أو أخرى، يبدو كل شيء معلقا الآن، برقبة هذا الحل السياسي، الذي كائنا ما كانت طبيعته، فإنه يجب أن يعني تغيير أسعار النظام في بورصة القابلية للحياة.

 

لماذا خاض النظام في سوريا كل تلك الحرب؟ ولماذا اندفع فيها كل ذلك الاندفاع؟

 

لقد فعل كل ذلك من أجل أن يتحاشى هذا الحل السياسي بالذات.

 

اليوم، وبعد أن جلس، كالبومة، على تلة الخراب، فإنه عاد ليدور الدورة كلها، ليجد نفسه أمام حقيقة لا يمكن قصفها، هي أنه نظام وصلت قيمته إلى قاع القاع، وبورصة وجوده تنهار.