ولربَّما انتفعَ الفتى بعدوِّه والسُمُّ أحياناً يكونُ شفاءَ


هلْ تُوحِّدنا المواجهة مع العدوّ، كمثل ما كان نابوليون يُعلن الحرب على إنكلترا كلّما شعر باهتزاز الوحدة الوطنية في فرنسا...؟
إنه اختبارُ وطنيةِ الشعوب في المواجهات الملمَّات بين الداخل والخارج.


في أعقاب هبوط الطائرتين المسيَّرتين إسرائيلياً على ضاحية بيروت، لفتَـتْني انتفاضةُ ذلك الشاب اللبناني الذي ظهر عبـرَ وسائل التواصل الإجتماعي وهو يقول ساخراً: «تهدّدنا إسرائيل بالحرب.. أبالموتِ تُهددنا...؟ بالتفرقة والشقاق والخلافات؟ نحن نعيش كل يوم حالة حرب وموت، نختلف كلما جلسنا الى طاولة الغداء، نتشاجر ونتصالح، نختلف ونتوافق، نحيا أمواتاً ونموت أحياءً».


صدَقَ ذلك الشاب، نحن نموت كل يوم بالتقسيط، حياتنا أشـبه بالسندات الموقّعة بالدم، ندفعها يومياً لذلك المرابي الذي إسمه شبح الموت، نحن نموت ولكننا لا نُدفَـن، نتفرَّق بالدم ونتوحَّد بالدم، وكلُّ ما في الحياة من معاكسات هو سـرُّ حياتنا الوجودي.


نحن اللبنانيين والمسيحيين تحديداً، كأننا منذورون تاريخياً للمواجهة مع الإسرائيليين، نربح ونخسر ويربحون ويخسرون، على ما يقول الرئيس هاري ترومان: «إذا كان يسوع المسيح بذاته لم يستطع إرضاء اليهود فكيف يتوقَّع أيُّ شخصٍ أن يكون أفضل حظَّـاً...».


منذ أنْ اجتاحت إسرائيل الدول العربية المتاخمة لها سنة 1967، إختفى العالم العربي من التاريخ وسقطت به الجغرافيا، بل منذ ما قبل... منذ أن عيَّن مفتي فلسطين في نيسان 1948 المناضل عبد القادر الحسيني قائداً لمواجهة الحملة اليهودية في فلسطين، وحين رفض العرب تسليحه قال الحسيني: «جميعكم خونة والتاريخ سيسجل كيف بعتُـمْ فلسطين...»(1)


في المواجهات، لم يبـقَ إلاّ لبنان يحمل الصليب الفلسطيني الى الجلجلة، ولا يزال هو ينزف من خاصرتيه دمَ الرماح، ولا يزالون هم يطلبون منه التبرُّعَ بالدم.


بفضل لبنان الصامد والمقاوم سقط ذلك الحلم الإسرائيلي الذي أعلنه رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل في خطاب ألقاه خريف 1941 في مجلس العموم حين قال: «إن اليهود يطالبون بأن تُطلـق يدُهمْ في فلسطين وينضمَّ إليها الجنوب اللبناني ونهر الليطاني مقابل وضع اليهودية العالمية إمكاناتها في خدمة بريطانيا»(2)... وهذا الحلم وردَ أيضاً في نصوص العهد القديم «سفر يشوع بن نون» على أنه وصيَّةٌ إلهـية.


لو أنّ هؤلاء الذين إسمهم عرب الذين «ختم الله على قلوبهم وعلى سمْعِهم وعلى أبصارهم غشاوة»،(3) بدل أن يفجِّروا على أجسادهم ملايين الأطنان من الحديد والنار والبارود قد فجَّروها على أعدائهم، لكانت إسرائيل تحترق في غياهب الجحيم، ولكانوا دخلوا الجنَّـة على أجنحة الملائكة، ولما كان «لهم عذاب عظيم».


خسروا أنفسهم وتاريخهم وتراثهم والشرف وكل مطامح المستقبل العربي، وخسرَ لبنان بهم ومعهم دوره الريادي ورسالته النموذجية ونمـوَّه وازدهاره والإقتصاد والإستقرار، وخسر شبابه النازح ورجالاته الرجال، فحلَّ محلَّهم أشباهٌ وأشباح بنزاعاتهم السياسية والمذهبية والحزبية والحروب، وفي الحروب أبطالٌ ملحميِّون وأبطالٌ دمويِّون، البطل الملحمي يتجنَّد في خدمة الإنسان، والبطل الدموي يتجنَّد في خدمة القتل.


لا بـدَّ أخيراً من قيام الدولة التي تعود لها السلطة الشرعية على الأرض، في موازاة وحدةٍ وطنية تشكِّل هي الإستراتيجية الدفاعية، حتى ولو خسرنا حربنا العسكرية، وربحنا الوحدة الوطنية في الحرب، فنحن في الحربين منتصرون.

 

-1 من كتاب : خطٌّ في الرمال – جيمس بار – دار الساقي بيروت 2018 / -2 المرجع نفسه.
-3 سورة البقرة «7».