عندما يُكَرّر أمامي أن العراق رحم الشعر، تتكرر في ذهني دوماً صورة بدر شاكر السياب. صورته حاملاً تحت بسمته الرضيّة، جسمه الضئيل، وأحزان الفرات، وصورة جيكور، القرية المرمية في متاهات العراق وفوضى تاريخه العظيم، وفائض الأشلاء ولوحات الشعر الملعون، ومراكب النخيل وقوافل النوق الشامخة بأحمالها، مشرئبة الأعناق، كأنها ليست محمّلة بأكثر من موال أو نسمة مفاجئة.

 


لشدة ما كان شاعراً وحائراً وحزيناً وعاشقاً ووحيداً، جعل السياب من جيكور قريتنا جميعاً. بل حفرها فينا أكثر مما حُفرت قرانا. وتناهت إلينا من شعره على الدوام أصوات، أو همسات، «شناشيل ابنة الجلبي». ويوم كان العراق خناقاً وجدلاً وصخباً وزعيقاً، كنا نسمع قوافيه مثل أجراس القوافل، تذكّر النوق بأن الطريق طويل، والسكينة روعة الحياة.

 


كلما تاه في شعره وفي فكره، اهتدينا بجمالياته وأطربنا حداؤه ولوّعتنا أحزانه. لطالما تاه. ولطالما حمل معه شاعريته الكبرى: مرة في اليسار، مرة في اليمين، مرة في الشعر الغنائي المرسل، مرة في الشعر الحديث المتسامي نحو آفاق أبعد في الشعر، مرة منفرداً، مرة جزءاً من مجلة «شعر»، ومستقراً أخيراً في مجلة «الآداب»، المقام الأخير بعد جيكور، كما صرّح يومها في صوته المحمّل خيانات الجسد وألق النفس.

 


لم أقرأ شاعراً بالطريقة التي قرأت فيها مهاجر جيكور. لم يرنّ في قلبي شاعر مثله. فقد هجرت الشعر، محاولةً وعشقاً، منذ الشباب. وظل محمود درويش في نفسي. وذهبت مرحلة نزار، إلا ما قاوم منها الزوال. وبقي كل ما أطلبه في الشعر، عند هذا الساحر المهزوم مثل حظوظ الفقراء.


شاعر الباقات المغنية. أزهار برّية وكلمات شعبية ومواويل وأساطير، حاملاً معه أينما حلّ أو ترحّل، تربة الشعر الرائعة الخصبة والألوان والأنواع، يذرّها كما يذرّ سحره على اللغة، ويلوي صلابتها الهائلة بيده النحيلة الصغيرة المرتجفة مثل ليل الغرباء.


عاش رايةً مرفوعة في عالم منكسر. أذكر منه أيامه الأخيرة على سرير حديدي في مستشفى الصباح، الكويت. وأمسياته في مجلة «شعر». وكان غريباً في كل مكان، إلا في الرحم الذي وزّع الشعراء مع النخيل والماء.