من الواضح أنّ عملية طائرتي «الدرون» الإسرائيليتين اللتين قصدتا مكتب الوحدة الإعلامية لـ«حزب الله» لم تكن مهمتهما التصوير وجمع المعلومات، كانت المسألة أبعد بكثير، فالطائرة الاولى التي انطلقت على ما يبدو من البحر كانت تحمل قنبلة تريد زرعها في مكان محدَّد في انتظار تفجيرها عندما يظهر الهدف ويحين الموعد.
 

سلكت الطائرة المسيّرة مساراً منخفضاً تحت خط الرادار، بحيث لا تكتشف. ووصلت بعد منتصف الليل الى المكان المحدّد وهو ما يثبت أنّ المهمة لم تكن بغية إيقاع خسائر بشرية، فالحركة ما بعد منتصف الليل تكون عادة خفيفة جداً، لكن شوارع لبنان، خصوصاً الضاحية الجنوبية مختلفة عن شوارع مدن العالم.

 

وشكلت كابلات الكهرباء والمولدات والإنترنت عرقلة لحركة الطائرة التي اصطدمت بها، وسقطت من دون ان تنجح في زرع العبوة، ما اضطر القائمين على العملية الى ارسال طائرة إنتحارية ثانية من البحر لتفجير الاولى منعاً لتفكيكها، وهو ما أخفقت في إتمامه. والاهم انه كانت في فضاء الضاحية طائرة «درون» اسرائيلية ثالثة على علو مرتفع وبحجم اكبر مهمتها تنسيق العملية.

 

قبل ذلك بساعات معدودة، كان «الموساد» الإسرائيلي بالتعاون مع سلاح الجوّ ينفّذ عملية اغتيال لعنصرين من «حزب الله» للمرة الاولى منذ سنوات بقصف من الجو.

 

وطال الاغتيال اثنين من ابرز كوادر الحزب المتخصصين في الصواريخ الدقيقة على انواعها واعادة تطوير القديم منها. وبالتالي فإنّ الترابط الزمني بين عملية دمشق وعملية الضاحية الفاشلة يوحي ايضاً بترابط المهمتين، اي انّ هدف طائرة الضاحية الجنوبية زرع عبوة وانتظار «شيء ما» سيصل لاحقاً، والعمل على تفجيره من دون ترك بصمات تشير الى مسؤولية إسرائيل.

 

وسائل الإعلام الإسرائيلية ووسائل إعلام عالمية تحدثت عن استهداف آلة تتعلق بالصواريخ الدقيقة، لكنّ «حزب الله» تكتّم على المعلومات التي توصلت اليها تحقيقاته باستثناء ما قاله الامين العام السيد حسن نصرالله بأنّ عملية الضاحية أخفقت في تحقيق هدفها.

 

والواضح أنّ اجهزة الامن الاسرائيلية حققت خرقاً امنياً انطلاقاً من سوريا. فساحة القتال في سوريا مفتوحة ومجموعات «حزب الله» مكشوفة امام مختلف الفصائل والمجموعات الموجودة والمشاركة على الساحة، وهو ما يجعل الخرق الإسرائيلي متاحاً تماماً، كما حصل سابقاً مع اغتيالات حصلت على الساحة السورية.

 

لكن بإخفاق عملية الضاحية الجنوبية والردّ الذي نفّذه الحزب انقلبت الصورة امام بنيامين نتنياهو. وبخلاف الانطباع الذي ساد فإنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية لم يكن يرغب في تعديل قواعد الاشتباك، بل يريد عملية امنية تمنحه بريقاً انتخابياً، ولكن من دون التورّط في لعبة هزّ الخطوط الحمر المرسومة.

 

لذلك أعلنت إسرائيل أنها استهدفت مقرّاً للحرس الثوري الإيراني قرب دمشق، وبذلك كان نتنياهو يحاول إمرار العملية من دون ردّ من «حزب الله»، فيما اعلن نصر الله انّ الموقع المستهدَف هو للحزب وليس لإيران، وبمثابة التأكيد على أنّ الحزب سيردّ على تجاوز الخطوط الحمر المرسومة. فكان رده من الحدود الخاضعة للهدوء منذ عام 2006.

 

صحيح انه بالنسبة لإسرائيل هناك اولوية امنية في تنفيذ عمليتي دمشق والضاحية الجنوبية، لكن نتنياهو اضاف الى ذلك اولويته الانتخابية ما جعله يختار التوقيت على هذا الاساس، لكنّ المقاعد الثلاثة التي أضافها حزب «الليكود» من خلال استطلاع سريع جرى بعد ساعات من العمليتين، انقلب تراجعاً مقلقاً بعد عملية «افيفيم».

ففي آخر استطلاعات الرأي، تراجعت نسبة مؤيّدي عودة نتنياهو الى رئاسة الحكومة من 49% الى 39% في مقابل ثبات مؤيّدي وصول بيني غانتس على 30%. وليس تفصيلاً أن يكتب الإعلام الإسرائيلي أنّ إسرائيل تمرّ في أيام مقلقة، عندما يكون «حزب الله» مصدراً رئيساً للمعلومات الموثوق فيها.


وجاء ذلك حرفياً في times of Israel، وفي الصحافة الاسرائيلية كلام على إلغاء نتنياهو رحلة كان سيقوم بها هذا الاسبوع الى الهند، لأنه يريد استبدالها برحلة الى موسكو الغاضبة منه بسبب زيارته الأخيرة لأوكرانيا التي لديها جالية يهودية في اسرائيل. لكن الجالية الروسية اكبر وهي غاضبة من جحود نتنياهو.

 

لكنّ الأهم هو الموقف الاميركي الذي يجب قراءته بدقة. فبعد ساعات على عملية الضاحية طلب وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو من الرئيس سعد الحريري أن يسلّم «حزب الله» الطائرة الاولى وبقايا الطائرة الثانية الى الجيش اللبناني باعتبار انّ هاتين الطائرتين صناعة عسكرية اميركية، أدخلت عليهما إسرائيل بعض التعديلات. فعل ذلك لاحقاً «حزب الله» بعدما أنهى كشفه، ولكن في اطار التعاون بينه وبين الجيش اللبناني.

 

وتجدر الاشارة الى الارتياح الكامل للحزب تجاه قيادة الجيش حيال مبادرته للتصدي لطائرات الاستطلاع الاسرائيلية ورفع درجة الاستنفار في الجنوب الى الحدّ الأقصى من دون العودة الى احد.

 

وبالمناسبة ايضاً فإنّ قيادة «حزب الله» تبدي في كل مناسبة ارتياحها الكامل لقيادة الجيش على كامل الاراضي اللبنانية، ولو انّ هنالك مَن سعى لإحداث هوّة بينهما باعتبار عدم اشارة قائد الجيش خلال ذكرى تحرير الجرود الى دور الجيش السوري من الجانب الآخر، طالما انّ عدم الاشارة الى دور «حزب الله» مفهوم ومبرَّر.

 

وبالعودة الى الموقف الاميركي فإنه بدا مرناً وواقعياً وأقرب الى ضمان عدم تطوّر الموقف الإسرائيلي في حال كان ردّ «حزب الله» معقولاً ومحدوداً ومدروساً.

 

وهذا السقف هو ما يفسر موقف الحريري الذي كان قد عاد لتوه من زيارته واشنطن حيث اجتمع مرتين ببومبيو. وتولّى وزير الاشغال يوسف فنيانوس نقل الرسائل بين الحريري وقيادة «حزب الله» بسبب تعذّر تنقل مسؤول الحزب حسين خليل خلال الاسبوع الماضي. لكن خليل كان التقى الحريري فور عودته من واشنطن، بعيداً من الإعلام، وبطلب من رئيس الحكومة اللبنانية.

 

وخلال الاجتماع وضع الحريري خليل في اجواء رحلته الاميركية وقدّم له طرحاً مفاجئاً «فلنفصل ترسيم الحدود البحرية عن البرية، ولنبدأ بترسيم الحدود البحرية لما للبنان من مصلحة ماسة بذلك نظراً لوضعنا الاقتصادي الصعب ولنحيل الملف الى مجلس الوزراء الذي يبت الامر بدل تركه على عاتق اللجنة المكلفة بالتفاوض».

 

أصغى حسين خليل بتمعّن الى عرض الحريري من دون أن يعطي موقفاً باسم الحزب. والواضح انّ الموقف جاء بعد عودة الحريري من واشنطن، وقد يكون جاء بناءً على اقتراح جهة لبنانية فضّلت الاختباء وراء الحريري وتصويره وكأنه آتٍ من واشنطن. وهذه الجهة تريد الإمساك بالملف وبآباره النفطية ووضعه تحت رحمة تصويت مجلس الوزراء وتوازنات الحكومة.

 

وبعد دقائق على تنفيذ عملية «افيفيم» سارعت قوات الطوارئ الدولية وبتشجيع اميركي على التواصل مع لبنان وطمأنته الى أنّ القصف الإسرائيلي محدود ومحصور وسينتهي قريباً، وهي اشارة اميركية ايجابية مرة اخرى.

 

وخلال الاسبوع المقبل يصل المبعوث الاميركي ديفيد شينكر الى لبنان لمتابعة ملف ترسيم الحدود، ولكن هذه المرة بعد تراجع اسرائيل عن موافقتها على «وحدة» الترسيم البري والبحري. لكن الرئيس نبيه بري الذي يتولّى التفاوض باسمه كرئيس لمجلس النواب وكموضع ثقة «حزب الله» لا يبدو في وارد التراجع عن موقفه بضرورة «توحيد» الترسيم.