الحل أمام الحكومة والرئاسة والبرلمان هو خيار الحشد الواحد التابع للحكومة، وإعلان رفع الشرعية عن الفصائل المسلحة المنفذة للتعليمات الإيرانية والمضرة بالمصالح العراقية وشمولها بإجراءات حصر السلاح بيد الدولة.
 

حان الوقت لإجراء تقييم سريع لانعكاسات ملف الحشد الشعبي بعد أن أصبح في الأيام الأخيرة العنوان الأول للأزمة السياسية العراقية ليس لأسباب داخلية، وإنما لأن الأمر يتعلق بالأمن الوطني بسبب أزمة طهران وواشنطن، ولو كان العراق يُقادُ بقرار سياسي مركزي واحد من قبل رئيس الحكومة كمسؤول أول لما حصل مثل هذا الارتباك في ملف الحشد الشعبي الذي ارتبط أصلا بالحرب على تنظيم داعش واحتلاله للأرض العراقية، حين حصلت تلك الهبّة الوطنية للدفاع عن العراق وقدم شبابه دماء غالية تحولت في ما بعد إلى تجارة بيد البعض من المتدربين على السياسة وخدمة الآخرين خارج الحدود.

توسع عنوان الحشد ليضم الميليشيات المسلحة التي كانت قائمة أصلا ولم تندمج في الجيش العراقي بعد عام 2003، ثم أصبحت تلك الفصائل أكثر نشاطا وتواجدا في المناطق الغربية من وسط العراق وجنوبه بعد التحاق المتطوعين بفتوى السيد السيستاني المحددة بزمانها ومكانها وغرضها في تحرير الأرض الذي أنجز بقتال أبناء العراق شعبيا، ومن قبل الجيش العراقي الذي أريد قتله للمرة الثانية إثر اجتياح داعش للموصل 2014 بعد أن قتل أول مرة بقرار حله عام 2003 من قبل الحاكم الأميركي بول بريمر وكأنه قد انتقم من الجيش العراقي لصالح النظام الإيراني.

تنامت رغبة بعض الأحزاب الإسلامية في قيام هذا الكيان العسكري الشعبي الجديد وفسرها كثيرون بأنها تتماشى مع الحرس الثوري في إيران بعد منحه صفة “القدسية” دون غيره في الدفاع عن الوطن، ومرر قانون الحشد الشعبي في البرلمان عام 2006 بعد إزاحة مشروع “الحرس الوطني” الذي كان متداولا قيامه ليشمل مختلف المكونات العراقية. وأقرت آلياته التي لم تنفذ حتى نهاية ولاية حيدر العبادي في العام 2018 حيث وفر القانون لجميع الفصائل المسلحة الامتيازات والضمانات الوظيفية.

كما أصبحت هذه المشروعية القانونية مجالا لرفع العصا في وجه كل مواطن يشتكي الانتهاكات التي حصلت خلال وبعد تحرير أراضي المحافظات الموصوفة بالسنية، ومن بينها ما حصل من قتل وتغييب آلاف المواطنين تحت تهمة الانتماء إلى داعش. وتوجد فصائل ميليشياوية تعلن عن ولائها لخامئني أرادت الحصول على امتيازات القانون الجديد دون الالتزامات الرسمية الحكومية.

هنا بدأت الإشكالية لدى الحكومة ورئيسها بوجود حشدين، وليس حشدا واحدا. الأول يتلقى أوامره وفق التسلسل الهرمي برئاسة فالح الفياض وينفذ المتطلبات الجديدة بالتخلي عن العناوين العقائدية والتحول إلى الأرقام والتسلسلات العسكرية، ويلتزم بالتوجهات التي تبعده نسبيا عن الخضوع للتعليمات الخارجية.

أما الحشد الثاني فيعتبر نفسه جزءا من خط “الممانعة والمقاومة الإسلامية” بقيادة النظام الإيراني الذي يفتخر بأنه يمتلك الساحة الأولى العراق التي تتقدم اليوم على الساحة اللبنانية رغم الرمزية التاريخية التي يتمتع بها حسن نصرالله في تعبيره وتنفيذه لأوامر الولي الفقيه.

ومثلما عجزت إيران عن صناعة رمز ديني سياسي معمم شبيه بنصر الله في العراق، فقد عجزت كذلك عن صناعة مشروع ميليشياوي واحد ينفرد بالساحة لسبب مهم هو أن جيش المهدي الذي قاده مقتدى الصدر كان مقاوما للاحتلال العسكري الأميركي وتعرض لانشقاقات بعض قادته الرئيسيين بسبب تغلغل عقيدة ولي الفقيه داخل جيش المهدي، والتي رفضها الصدر بما قيل عن ملابسات تخليه عن مرجعية كاظم الحائري صاحب الفتوى الأخيرة بمحاربة الأميركان في العراق.

انضم التيار الصدري في وقت مبكر إلى العملية السياسية وقد أصبح للسلطة تأثيرها الساحر في الانتقال من البندقية إلى المكاتب الفارهة والتمتع بمزاياها الحريرية، فعلام البقاء خلف السواتر والتعرض لسجون الأميركان ما دام الحكم في العراق أصبح بيد السياسيين الشيعة حتى مع وجود الأميركان حتى عام 2011 تنفيذا لفرضية “التقيّة” في مجاملة الأميركان من جهة، والولاء لإيران من جهة ثانية؟

لكن هذه اللعبة المزدوجة قد تراجع تأثيرها بعد وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية عام 2017 وخروجه من الاتفاق النووي مع إيران، والدخول في مشروع التضييق عليها عبر العقوبات التجارية، ما جعل ملف “الحشد الشعبي” في العراق ورقة بيد طهران، أما الأميركان فقد جعلوه جزءا من ترتيباتهم الخاصة لمواجهة نفوذ طهران في العراق، وهذا ما أبلغه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مباشرة إلى رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي أثناء زيارته الخاطفة إلى بغداد أوائل مايو الماضي.

واكتسبت هذه السياسة أهميتها بعد قرار ترامب- المنتقد من قبل مستشاريه- باستبدال الوجود العسكري الأميركي في سوريا بسياسة التضييق على نفوذ إيران في العراق، ودعم برنامج إسرائيل في استهداف المواقع العسكرية في كل من سوريا ولبنان وشمول الميليشيات المسلحة في العراق أخيرا بذلك عبر الطائرات المسيرة وغير المسيرة حيث وجهت ضربات إلى بعض مراكز السلاح والعتاد التابعة لبعض فصائل الحشد في مناطق متعددة في العراق آخرها مركز مجاور لقاعدة “بلد الجوية” شمال بغداد وموقع للحشد على الحدود العراقية السورية، والتي وضعت الساحة العراقية في وضع أكثر تعقيدا من محيط ملتهب واضح النوايا والمعالم والأهداف في كل من سوريا ولبنان لكونهما ساحتين تقليديتين لصالح إيران تستهدفهما إسرائيل، لكنه غامض في العراق المحكوم رسميا من قبل نظام يعلن عن سياسة النأي بالنفس وعدم السماح بجعل العراق ساحة حرب بالوكالة.

وهذا ما وضع رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي أمام حرج يزداد كلما اشتدت لعبة شد الحبل بين طهران وواشنطن، في مدى قدرته على ضبط جميع فصائل الحشد دون أن يخدش علاقته بطهران وسط انقسام شيعي واضح حول وظيفة “الحشد” بين الدعوات المطالبة بحل الجيش العراقي وإحلال الحشد بدلا منه ومصير مواقف فصائل “الممانعة” المرتبكة بين التصعيد الإعلامي، وبين الالتزام بالتهدئة تجاه الهجمات على مراكز السلاح. كان أوضحها تصريح زعيم “كتائب سيد الشهداء” أبوولاء الولائي المعروف بولائه لطهران بأنه “إذا وقعت الحرب فالحشد الشعبي سينضم إلى الجانب الإيراني ويجعل القوات الأميركية في العراق رهينة بيده”.

الانقسام داخل فصائل الحشد ظهر في موقفي رئيس الهيئة فالح الفياض ونائبه أبومهدي المهندس حول المسؤولية الأميركية عن تلك الضربات، ويبدو أن التحقيقات قد بينت أن إسرائيل هي مصدر الهجمات، وبدلا من أن تعلن ذلك الحكومة صرح به النائب عن كتلة فتح، أحد قياديي الحشد، أحمد الأسدي وأُعطي نيابة عن وزارة الخارجية آليات لتقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، وهذا مثل من مئات الأمثلة لتعدد مصادر القرارات في البلد.

المهم أنه تم إبعاد واشنطن عن مسؤولية قصف مراكز سلاح الحشد وذلك خفف الضغط مؤقتا عن صدر رئيس الحكومة بتأجيل حصول أزمة مع واشنطن، لكن مشكلة العدد الكبير من فصائل الحشد الولائية ما زالت قائمة وتهدد الأمن العراقي وهناك قيادات سياسية شيعية مهمة ترى بضرورة تنفيذ الحكومة لالتزاماتها في حصر السلاح بيد الدولة، وعدم الخضوع للغليان العاطفي الإعلامي وعدم جعل الدماء العراقية ثمنا لمصالح الآخرين، ومنها مواقف مقتدى الصدر وعمار الحكيم وحيدر العبادي إلى جانب مواقف الزعامات السنية الحذرة، دون أن يعني ذلك عدم التنديد بالعدوان الإسرائيلي على الأراضي العراقية.

الاختلافات في المواقف الحزبية والميليشياوية من جهة، والحكومة من جهة ثانية ستؤدي إلى تداعيات خطيرة رغم محاولات ضبط النفس للرئاسات الثلاث الراضية بنمط العلاقة الحالية مع واشنطن باستنادها إلى الاتفاقية الأمنية النافذة وإطارها المتضمن مسؤولية الأميركان في الحفاظ على أمن النظام السياسي القائم، وكذلك الشعور بحاجة العراق إلى مسافة بينه وبين التصعيد الإيراني ضد واشنطن تؤمن له قدرا من الفرص لكسب الدول ومن بينها أميركا وبلدان الخليج العربية في الدخول في مشروع إعادة الإعمار المعطّل.

مرحليا الحل العملي واليسير أمام الحكومة والرئاسة والبرلمان هو خيار “الحشد الواحد” التابع رسميا للحكومة، وتفعيل إجراءات رئيس الوزراء التنظيمية وإعلان رفع الشرعية وغطاء عنوان الحشد عن الفصائل المسلحة المنفذة للتعليمات الإيرانية والمضرة بالمصالح العراقية وشمولها بإجراءات حصر السلاح بيد الدولة. لم يعد الظرف يسمح باللعب بأمن العراق لصالح الآخرين.